غازي عثمانين يرافع من أجل تدريس المواد العلمية بالعربية

بقلم غازي عثمانين

أستاذ ومدير مخبر تكنولوجيات المحروقات ـ كلية المحروقات و الكيمياء ـ جامعة محمد بوقرة ـ بومرداس

تشهد  الساحة اللغوية في الأوساط الجامعية في الجزائر حاليا حركة دؤوبة قوية غير عادية إثر قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي السيد الطيب بوزيد، بإطلاق عملية سبر آراء حول استبدال  استعمال اللغة الفرنسية باللغة الانجليزية في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي. وقد رحبت الأسرة الجامعية في غالبيتها أساتذة وطلبة واستحسنت الفكرة معللة بذلك أن اللغة الفرنسية لغة أكل عليها الدهر وشرب وأصبحت لا تصلح حاليا لا للبحث العلمي ولا حتى للتدريس، بالإضافة أنها لغة المستعمر فرضها علينا 132 سنة ثم فرضتها علينا ما يسمى بـ”دفعة لاكوست” بعد الاستقلال طيلة 57 سنة.

وحسب النتائج الأولية للاستفتاء، فإن نحو95  من المائة من المصوتين تشير إلى دعم القرار وتعزيزه، وهو ما أفزع السفير الفرنسي في الجزائر الذي وجّه في ختام خطابه الأخير كلامه مباشرة إلى الجزائريين يقول فيه “مهما كان المستقبل الذي تكتبونه، سيبقى شيء واحد، هو العلاقة بين فرنسا والجزائر من خلال المعاهد الفرنسية، والتبادلات بين الجامعات، وتعليم اللغة”. ووفق المنشور الوزاري فإن كل الآراء والأفكار التي تم طرحها في هذا الاستفتاء في شكل فيديوهات وتصريحات ميدانية سيتم مناقشتها وسيشرف عليها الوزير بنفسه.

اقتراح علي بن محمد

قضية استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية في حد ذاتها جيدة وطموحة لمستقبل أفضل من حيث المبتغى والأهداف المرجوة منها. وقد أثيرت في مناسبات عديدة إما للاستهلاك المحلي كما يقال أو لأجندةٍ ما. غير أنه يجب التذكير أنه عندما قام سنة 1992 الوزير الأسبق للتربية الوطنية الدكتور علي بن محمد باقتراح إدخال اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم الابتدائي إلى جانب اللغة الفرنسية ووافق عليه مجلس الوزراء آنذاك، قامت الدنيا ولم تقعد، وبدأت المؤامرات تحاك من كل جانب لإجهاض هذا القرار. ووضع ما يسمى باللوبي اللغوي الفرنسي خطة لتدمير هذا القرار عن طريق تسريب أسئلة اختبارات البكالوريا، ونجحت الخطة عندما تبنَّاها المرحوم الرئيس محمد بوضياف ووصف المدرسة الجزائرية حينها بـ”المنكوبة” وبأنها تخرج “أناسا جهلاء ومتطرّفين”.

وللتعبير عن رفضه الشديد للمؤامرة، ولما قاله الرئيس، قام الوزير علي بن محمد بتقديم استقالته فورا وقال كلمته المشهورة “أرفض أن أكون وزيرا لمدرسةٍ منكوبة”. ولو طبق قرار السيد الوزير آنذاك لكان عندنا الآن أرمادة من الأساتذة الناطقين باللغة الإنجليزية.

ولكن هل نحن في حاجة إلي استفتاء أو سبر أراء لاستبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية لتدريس العلوم والتكنولوجيا؟ لقد أصبحت اللغة الإنجليزية تكتسي طابعا عالميا لا يختلف عليه اثنان وفرضت نفسها في كل المحالات السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وغيرها. ويجب أن لا تناقَش هذه المسألة أصلا، وهل نحن في حاجة ملحّة وسريعة إلى اللغة الإنجليزية الآن. أعتقد أننا سنصحح الخطأ بخطأ آخر. وقبل هذا وذاك هل أعطينا للغة العربية حقها الكامل ومكانتها التي تستحقها وما محل هذه اللغة المنكوبة والمنبوذة من طرف بعض الجزائريين في الجامعة من هذا الحراك اللغوي؟ السؤال يبقى مطروحا.

حَراك لغوي

كان من الأجدر بالسيد وزير التعليم العالي أن يتخذ قرارا يخص تدريس المواد العلمية والتكنولوجية باللغة العربية ولا يقفز إلى موضوع آخر نحن في غنى عنه. وأعني هنا أنه لا يمكن بناء مشروع قوي بدون أساس سليم وقوي، ويعلم السيد الوزير أن الجامعة الجزائرية تعاني من الداخل إن لم نقل مخرّبة وذات مستوى ضعيف ومتدني وأراد أن يزينها من الخارج بديكور لا معنى له، في الوقت الذي يشتكي فيه أغلب الجامعيين أساتذة وطلبة من تدني مستوى الجامعة وخاصة -وأقولها بصوت عال- منذ أن بدأنا بتطبيق ما يسمى “ل. م. د”.

الكل يعلم أننا في الجامعة ندرس المواد العلمية باللغة الفرنسية، ويعلم الجميع أن هناك مشاكل كبيرة وعويصة، إذ كما هو معروف لدى الجميع أن كل مراحل التعليم الثلاثة (الابتدائي والمتوسط والثانوي) تدرس باللغة العربية، وعندما يصل طلاب سنة أولى جامعي إلى مقاعد الجامعة يصطدمون بلغة التدريس وهي الفرنسية وهنا تكمن الطامة الكبرى ويبدأ الجدل بين الأستاذ والطالب. وبما أن كل مراحل التعليم تدرس باللغة العربية، أعتقد أنه من السهل على أساتذتنا في الجامعة التحول إلى التدريس باللغة العربية. ولذا أطلب من وزيرنا للتعليم العالي والبحث العلمي التفكير جيدا في إعداد مشروع متكامل ذي مصداقية وتمويل خاص لتدريس العلوم والتكنولوجيا باللغة العربية. للتذكير. نشرتُ في مقال سابق “أنظر الشروق اليومي 03. 09. 2018 كيف حاول الوزير الأسبق للتعليم العالي والبحث العلمي الأستاذ مصطفى شريف تدريس العلوم والتكنولوجيا باللغة العربية. وأنشأ لجانا خاصة، ولكن كالعادة تم إجهاض المشروع في مهده عن طريق اللوبي اللغوي الفرنكوفوني.

وحتى نرد على هؤلاء الطفيليين الذين يشككون في قدرة اللغة العربية علما وبحثا وحضارة وتدريسا، جاء الرد قويا وبالأدلة الساطعة التي لا لبسَ ولا غبار عليها عن طريق البروفيسور محمد البغدادي أستاذ الفيزياء ومؤسس مختبر الفيزياء النظرية بجامعة محمد الخامس بالرباط، إذ أظهر أن اللغة العربية لها مكانتها العلمية والتقنية من بين لغات العالم، وقام هذا الأستاذ مشكورا بتأليف أول موسوعة بالعربية في الفيزياء النظرية تتكون من خمسة أجزاء وتتناول مجالات عديدة: الميكانيك التقليدي والنسبوي، والميكانيك الإحصائي والتيرموديناميك، والكهرومغناطيسية والضوء، والميكانيك الكمومي أو ميكانيكا الكم، وأخيرا الفيزياء الإحصائية.

 في حوار مع “الجزيرة نت” نبَّه الدكتور محمد البغدادي إلى التفريق بين لغة التدريس ولغة البحث العلمي، فالتدريس كما قال يتم في كل بلاد العالم باللغة الوطنية، ولا يوجد بلدٌ مهما كان صغيرا إلا ويدرّس بلغته. فآيسلندا مثلا وهي جزيرة للصيادين عدد سكانها لا يتجاوز 300  ألف، تدرِّس باللغة الآيسلندية. والدانمارك بلدٌ سكانه نحو 5 ملايين نسمة لكنها شهيرة بالفيزياء وفيها معهد يعدّ من أهم المراكز العلمية في العالم وتدرّس بلغتها الدانماركية والأمثلة كثيرة. في حين أن لغة البحث العلمي المتداولة حاليا هي اللغة الإنجليزية. وأضاف “عندما نقول ونعتقد أن لغتنا لا تصلح للعلم فهذا يعني أننا أيضا لا نصلح ولن نفهم هذا العلم”.

ويشير البغدادي إلى أن اللغة العربية اليوم تعيش حالة انحطاط كبير جدا، متسائلا “هل نريد الخروج من هذا الانحطاط، أو أن نغرق فيه أكثر فأكثر”؟

للإشارة فقد احتفل الإخوة في المغرب بجامعة محمد الخامس بالرباط بتأليف أول موسوعة بالعربية لمؤلفها البروفيسور الدكتور محمد البغدادي، ويقول إن موسوعته تغطي تقريبا كل ما يحتاجه الفيزيائي الجدّي الذي يريد التخصُّص في الفيزياء الرياضية خلال الخمس سنوات الأولى من دراسته الجامعية.

وبعد هذه المقدمة الموجزة أعيد وأكرر أنه على وزارتنا الموقرة أن تأخذ بعين الاعتبار قبل فوات الأوان، وأن تدرس جيدا موضوع استعمال اللغة العربية في التدريس في الجامعة، وأن تشجع كل الأساتذة الذين يساهمون في إثراء جامعاتنا ومكتباتنا بكتبٍ علمية باللغة العربية. وعلى المجلس الأعلى للغة العربية أن يقوم بدور فعال في هذا المجال. للإشارة تعطي النرويج جائزة كبيرة لكل من يؤلف كتابا في المجال العلمي أو التقني أو التكنولوجي، وتتمثل هذه الجائزة في أن الدولة تتحمل شراء ألف نسخة من المؤلف.

وأخيرا أقول: هل يمكن أن نصل إلى هذا المستوى من الرقي والتطور وحب العلم مثل النرويج وغيرها من الدول الراقية والمتطورة؟ نترك الجواب لمن يهمه الأمر

المصدر الشروق