ليبيا..تفكيك المشهد وقراءة الرهانات

بقلم: كريم بن زيتوني

تصدر المشهد الليبي الحدث الدولي مع ما صاحب الأمر من تعليقات وتحليلات حاولت تفكيك المشهد من زاوية بعينها تراها ركن الزاوية.

والأصح هو أن المشهد الليبي هو كل تلك الزوايا كوحدة لا يمكن تفكيكها أو فصل أي جزء منها وهي في الأصل محاور كبرى تتفرع منها جزئيات وفواصل بنفس الأهمية وعلى نفس درجة الخطورة.

ليبيا كدولة وكيان ارتبطت بالنفط ارتباطا مفصليا فكان قاطرة التنمية في دولة ليست بكثيرة الحواضر والمدن رغم امتداد الأرض وشساعة المساحة، بل أن النفط تحول في ليبيا لريع يمس الجميع مع اختلاف آليات التوزيع ونسب الاستفادة فدعم المشتريات والسكن ومنح القروض مرورا بمنح الدراسة ومجانية الطبابة والتعليم وصولا لمنح السياحة واستقدام العمالة كانت حصة المواطن من النفط ليتحول الأمر لمبالغ مالية كبرى تقدر بملايين الدولارات كانت توزع على زعماء القبائل وشيوخها لشراء الذمم وضمان الاستمرارية بل وصلت ملايين النفط لقبائل أدغال افريقيا لحسابات مناطقية حينا وشخصية ذاتية أحيانا، كما كانت أموال النفط الليبية تلعب أدوارا هامة اقتصاديا وسياسيا بأوروبا من روما برليسكوني لباريس سركوزي مرورا ببرلين شرويدر. هذا النفط الذي صنع رفاهية الليبيين صنع كذلك أصدقاء كثر ممن تحملقوا حول الكعكة الليبية من كبريات الشركات التي كانت تسارع لشراء ود الزعيم دافعت بسياسييها وصناع قرارها لغض الطرف عن كثير من ممارسات الزعيم السياسية والحقوقية والأمنية.

قوة الاقتصاد الليبي طاقويا على اعتبار ضعف كلفة الإنتاج وسطحية المورد لم تكن بنفس قوة مؤسسات الدولة الليبية التي تمحورت حول شخصية الزعيم وبعض رجالاته ما سهل الانهيار ودفع للفوضى عقب تدخل الأطلسي بدفع فرنسي خالص سرعان ما واكبته قوى كبرى بحسابات اقتصادية وجيوسياسية ما أرهق الداخل الليبي بمزيد من التشتت والفرقة لم يعد يسمع معها غير أزيز الرصاص.

 بعيدا عن المشهد العام والصورة الإجمالية

ليبيا ليست بلدا نفطيا فحسب بل هي بلد غازي باحتياطات كبرى بشرق المتوسط والغاز الليبي القريب من أوروبا يراه الكثيرون بديلا عن الغاز الروسي في رؤية قوامها تنويع المصادر لتجنب الضغط والمساومة (كما تعاطت مثلا غاز بروم شركة الغاز الروسية مع الإشكال الأوكراني) عبر خط الأنابيب ساوت ستريم.

إن هذا الغاز كما يرى البعض يجب أن يكون بيد قوى تقليدية بعينها (فرنسا إيطاليا أمريكا) بعيدا عن القوى الصاعدة التي تحاول أن تجد لها مكانا مع الكبار (تركيا) وبعيدا عن تواجد وتحكم غير مرحب به في المتوسط للدب القطبي الروسي.

هذه الدول كلها تعمل اليوم على التواجد في ليبيا وتحقيق ما أمكنها من مكاسب على الأرض لتكون أوراق تفاوض وضغط تضمن لها حصتها من الكعكة الليبية الكبرى التي تقدر بـ 280 مليار دولار ككلفة إعادة إعمار فقط.

الغاز الليبي يحمل أبعادا دولية أخرى غير تلك التي ذكرناها، فالكيان الصهيوني الذي بدأ بتشغيل حقول الاوف شور  وبعد أن تحول لمصدر هام بالمنطقة (مصر والأردن) يعمل على دخول السوق الأوروبية بقوة عن طريق قبرص واليونان وهنا جاء ترسيم الحدود البحرية الليبية التركية ليكون حجر عثرة في وجه المشروع خاصة أنه يرتبط بمناطق نفوذ وصراع على غرار المسألة القبرصية التي تعني تركيا واليونان وصراعهما التاريخي حول هوية الجزيرة وموقعها الإستراتيجي متوسطيا، بل أن ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية يرهن تجسيد تحالف الكيان الصهيوني، المصري، اليوناني، القبرصي الذي يعمل على الاستفراد بالشرق المتوسط عن طريق إقامة حكم موال في ليبيا وتحييد الدور التركي نهائيا.

كما يطرح البعض تساؤلات عن خلفية الدعم الروسي لحفتر على اعتبار أنه انخراط في دعم مسعى قوى منافسة لكن الحقيقة هي أن روسيا تعمل على كبح الطموح التركي المتنامي والإبقاء على المصالح الغازية لروسيا في أوروبا وتعزيز التواجد بالمياه الدافئة (بعد تواجدها المتوسطي في سوريا) وأبعد من هذا فروسيا تريد ورقة تفاوض للضغط على تركيا في سوريا على اعتبار أن سوريا عمق أمني لتركيا خاصة بجوار مباشر مع الأكراد، فروسيا تريد مقايضات تخدمها وتحقق مصالحها بل وتريد التفافا على الولايات المتحدة بسحب أوراق شريكها التركي في سوريا.

إن التواجد في ليبيا والسيطرة على مقدراتها النفطية والغازية والانفراد بكعكة إعادة الإعمار لا يجب أن يحجب عنا البعد الإفريقي في التحليل، فليبيا التي أرهقت أوروبا بتحولها لمعبر رئيس للهجرة غير الشرعية بما تحمله من مخاطر ديمغرافية وأمنية وثقافية هي كذلك دولة ذات حدود كبرى مع دول مهمة من حيث الجانب الأمني لتواجد حركات جهادية متعددة وسوق سلاح كبرى ولكونها دول ذات مصادر هامة كاليورانيوم والذهب والكوبالت فدول كـ (مالي والنيجر) تتحكم بها شركات كبرى (أريفا الفرنسية) لن تسمح بتواجد دول كتركيا وروسيا في مجالها مع تحول (السودان) لمصدر مرتزقة يعملون لصالح عديد الدول في مختلف مناطق النزاع (اليمن، ليبيا).

الدور الخليجي على بشاعته ودناءته وإغراقه في دم الليبيين لا يعدو أن يكون دور الممول ماليا ولوجستيا لتكون كلفة الحرب شبه منعدمة للدول الكبرى زيادة على أنه دور معاد لتركيا ولإستراتيجيتها بالمنطقة.

ليبقى الدور المصري إضافة لما ذكر دور المدافع عن نظام حكم قد يكون التواجد القطري التركي (الإخواني وفق التوصيف المصري) تهديدا حقيقيا وجوديا له لو مكن لمشروعه النجاح في ليبيا التي ستتحول لقاعدة خلفية للإخوان بخاصرة مصر الطرية على امتداد آلاف الكيلومترات من الغرب المصري.

الرهان الليبي بالنسبة للجزائر مهم ومهم جذا فمع حدود مشتركة تقارب الألف كيلومتر (إضافة لتأمين الحدود الجنوبية والغربية) تجد الجزائر نفسها فيما يشبهه حرب استنزاف لجيشها ومواردها ما يستدعي إستراتيجية محكمة للتعامل مع الشأن الليبي الذي حيدت الجزائر عن كل ملفاته لعاملين رئيسيين هما غياب الاستقرار السياسي بغياب القيادة الشرعية المنتخبة لمدة سنة تقريبا وانكفاء الديبلوماسية الجزائرية مطولا لتمركز القرار بيد الرئيس.

كان خطاب الرئيس تبون يوم أدائه القسم رسما لإستراتيجية العمل والتعامل مع الملف الليبي والذي قال بشانه إنه أولوية وأنه لا يمكن تحييد الجزائر عن أي رؤية أو تصور أو حل يتعلق به لكن انعقاد  مجلس الأمن القومي (تحرك داخلي يخص تأمين الحدود) كان التحرك الوحيد لحد الساعة مع تسارع الأحداث بليبيا وتآكل الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج الذي تعترف به الجزائر كممثل شرعي وحاكم فعلي لليبيا مع أن الواقع والأرض يقدم حقائق مغايرة لصالح حفتر وداعميه وهذا ما يستدعي تعديل القراءة وتحيين المعطيات والتواصل مع الجميع، فمبدأ الحياد الإيجابي يعني التقاء على مسافة واحدة من الجميع والبحث عن مصالحنا بكل أبعادها كأولوية.

وكذا تفعيل قنوات التواصل الرسمية وغير الرسمية كالامتداد القبلي للطوارق وتواجدهم بين البلدين وعلاقتهم الطيبة بمؤسسات الدولة الجزائرية.

ويمكن لهذا الامتداد القبلي على قوته وأهميته أن يتحول لمدخل وموطيء قدم تمارس به الجزائر تواجدا حقيقيا مؤثرا في ميزان القوى ومعطى مهم على طاولة الحوار.

إضافة طبعا لتوحيد التصور والتحرك مع تونس كونها دولة تماس مباشر وعمقا مهما دون إغفال التنسيق مع دول جنوب الصحراء خصوصا مالي التي تتمتع فيها الجزائر بعلاقات قد تؤثر على التصور والقرار رغم الضغوط الفرنسية المعروفة.

إن الملف الليبي هو تجسيد واقعي لصراعات التموقع وحروب الطاقة والتحركات الاستباقية والقراءات الجيو إستراتيجية التي يبدو أننا نغفلها مكتفين بالتقوقع والانكفاء في بوثقة خطابات وسياسات وإستراتيجيات يجب أن تحين بقراءة براغماتية قبل أن تفرض علينا حقائق وتغييرات لن تكون مصلحة الجزائر ضمن أجندتها

المصدر: الحوار