حظوظ البلد مع عودة الخط النوفمبري

  • بقلم حبيب راشدين

ظهور رئيس الجمهورية الدوري مع ممثلي الصحافة الوطنية، سمح لنا – حتى الآن – برصد بعض القناعات الراسخة عند رئيس الجمهورية، حيال أهم التحديات التي تواجهها البلاد بعد عام من الحراك الشعبي، ومخلفات موجة التطهير الأولى لجيوب الفساد في مؤسسات الحكم وإدارة المال العام، وبداية عهدة رئاسية لم يمنحها وباء كورونا فرصة التقاط الأنفاس، واستعادة السيطرة على مؤسسات الحكم، وإدارة الشأن العام وطنيا ومحليا.

فخطاب الرئيس، نجح حتى الآن في إعادة بناء الجسور مع الخط الوطني النوفمبري، الذي بدأ الانقلاب عليه منذ أحداث أكتوبر 88، واستهدفت مواقعه داخل مؤسسة الجيش إبان العشرية السوداء، وطمس ما بقي من آثاره في الحياة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والثقافية في الولايات الأربع للرئيس بوتفليقة، التي منحت ـ رغم ما كان فيها من انحرافات ـ  فرصة للقوى الوطنية لاستعادة المبادرة داخل مؤسسة الجيش.

توطين الخط النوفمبري في مؤسسة الرئاسة، بعد تثبيته في مؤسسة الجيش منذ 2004، سمح بتوحيد القيادة في ظروف داخلية ودولية معقدة محفوفة بالمخاطر، لن تقوى البلد على مواجهتها إلا بقيادة موحدة، وبالتفاف شعبي حول الخيارات الكبرى المقترحة، شريطة أن تتعامل معه قيادة البلاد بخطاب شفاف مسؤول، يكاشف المواطنين بواقع الحال، دون تهويل أو تهوين.

وفي هذا السياق، يحسن بنا أن نثمن موقف رئيس الجمهورية الرافض لأي إغراء، باللجوء إلى الاستدانة الخارجية المقوضة للسيادة الوطنية، ومراهنته على الموارد المالية الذاتية، مع تبني سياسة تقشفية في إنفاق الدولة، ومنها قرار تخفيض ميزانية الدولة لهذا العام بالنصف، لم تمنعه من اتخاذ قرار غير متوقع برفع الحد الأدنى للأجور، وإعفاء الأجور المتوسطة من الضريبة على الدخل.

غير أن قرار الامتناع عن اللجوء للاستدانة الخارجية، مع استشراف تراجع موجع ومستدام في موارد الدولة من المحروقات، يوجب التفكير السريع في مقاربات جديدة لتمويل أنشطة الدولة والاقتصاد مستقبلا، خارج الوصفات التقليدية، ومنها تجنيد الموارد المالية المتداولة في الاقتصاد الموازي، التي أشار إليها رئيس الجمهورية، ربما عبر إصدار سندات للحزينة العمومية تعمل بنظام المرابحة، تفتح آفاق الانتفاع من عوائد الاستثمار المنتج، أو عبر فتح سوق وطنية للأسهم، تكون المصدر الأول لتمويل القطاع الإنتاجي الوطني العمومي والخاص، بالادخار الوطني أو بموارد الاستدانة الداخلية.

وكيفما قلبنا الأمور، فإن معالجة ملف تمويل أنشطة الدولة والاقتصاد، مع استبعاد الاستدانة الخارجية، تملي علينا البحث عن مورد تمويل ثابت، يكون بالضرورة غير تقليدي، ليس باللجوء إلى الطباعة النقدية، بل بابتكار نظام نقدي ومالي ومصرفي جديد، يسمح بالاستدانة المحسوبة من الجيل القادم ، أي عبر الاستدانة الداخلية التي لجأت إليها بكثافة دول متطورة مثل اليابان، ولم تتأثر سلبا من استدانة داخلية فاقت 225%  من الدخل القومي الخام.

 وعلى العموم، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية التي يراد التستر عنها بتهويل أخرق من جائحة كوفيد 19، قد رفعت جميع القيود “العقائدية” التي كانت تلتزم بها البنوك المركزية، ومعها جميع القيود التي كانت مفروضة على الحكومات من جهة منسوب العجز المسموح به في الموازنات، ومن جهة التدخل الحكومي الواسع لحماية اقتصادياتها، بضخ مبالغ مالية فلكية، هي في نهاية المطاف تخليق اصطناعي للنقود من العدم، وشكل من أشكال الاستدانة الداخلية، تتحمل تبعاتها الأجيال القادمة من دافعي الضرائب.

وفي الحالة الجزائرية، فإن وضعنا ليس بالسيئ، مع مديونية خارجية أقل من 2  %  من الدخل القومي الخام، ومديونية داخلية ما تزل متواضعة دون الـ 50% ، تمنحنا هامشا أكبر في مواجهة أزمة تمويل نشاط الدولة وحاجات الاقتصاد، شريطة أن توجه حصرا للاستثمار المنتج الضمان لتسديدها مستقبلا، وتوفير حماية هذا التمويل غير التقليدي من الافتراس، كالذي لحق به مع عصابة الفاسدين.

مثل هذا الخيار، له اليوم حظوظ نجاح أوفر، مع عودة الخط النوفمبري لمواقع صناعة القرار، وحرصه على تحصين السيادة الوطنية من جهة، وعلى واجب توزيع أعباء الأزمة على الجميع، بقدر من العدل والإنصاف، يسهل حتما على المواطنين تقبل ما تعد به السنوات العجاف القادمة من تضحيات، ومن تأجيل اختياري لكثير من طموحاته ومطالبه المشروعة.

المصدر: الشروق