توقيف المؤرخ محمد أمين بلغيث يثير جدلآ واسعآ في الأوساط الأكاديمية والإعلامية

الموقف ـ مثلما كان متوقعآ أثار توقيف المؤرخ محمد أمين بلغيث ووضعه رهن الحبس المؤقت في إنتظار محاكمته على خلفية تصريحاته حول المسألة الأمازيغية جدلآ كبيرآ على مواقع التواصل الإجتماعي حيث إنقسم الرواد بين شامت يدعو الى معاقبته الشديدة بحجة مساسه بالهوية الوطنية ومناصر يؤكد بأن الباحث لم يقصد إهانة الهوية الأمازيغية بقدر ما كان يستهدف تيار إيديولوجي عنصري معروف بعدائه الشديد لثوابت الأمة وبولائه الصريح للدوائر الإستعمارية والصهيونية.
وفي تدوينة له، ذهب الكاتب والمستشار الثقافي السابق احميدة العياشي، إلى حد وصف بلغيث بأنه “يتكلم بلسان الموساد”، مشيرًا إلى أن تصريحاته ليست زلّة بل “كلمات مسمومة مدروسة” تستهدف إعادة فتح ملفات الفتنة العرقية. وربط العياشي بين خطاب بلغيث وسرديات “الماك” الانفصالية، متهماً إياه بلعب دور ناطق غير رسمي لمشاريع مشبوهة، ومذكّراً بتاريخه مع الجماعات الإسلامية في الثمانينيات، حيث اعتبر أن بلغيث مرّ بتحول جذري من خطاب توفيقي إلى طرح إقصائي. وهاجم الباحث مصطفى صامت بشدة الطرح الذي تبنّاه بلغيث، واتهمه بالجهل الفاضح بتاريخ المنطقة، معتبرا أنه يكرّر مزاعم خرافية عن أصول “البربر” وعروبتهم مستندًا إلى روايات أسطورية مثل تلك المرتبطة بإفريقش الحميري، بينما تثبت الأدلة التاريخية والأثرية حسب رأيه أن مصطلح “أمازيغ” يعود إلى ما قبل الميلاد، وقد ورد بأشكال متعددة في كتابات مؤرخين يونانيين ورومان أمثال هيرودوت وبليني وبطليموس وأميانوس وبروكوبيوس. ونبّه صامت إلى خطورة استعمال مصطلح “بربر” الذي يحمل حمولة استعمارية سلبية تعني “الهمجية”، مقابل التسمية الذاتية “أمازيغ” التي حافظت على حضورها في مناطق الطوارق والجنوب وحتى في المصادر الإسلامية القديمة.
واقتحم النقابي الطبيب لياس مرابط، من جانبه، النقاش، معتبرا أن ما ورد على لسان بلغيث خادشٌ للوحدة الوطنية، خصوصًا في توقيت مشحون بعد تحريك فرنسا لورقة “الماك” (تنظيم انفصالي) على أراضيها. وحمّل مرابط الإعلام المسؤولية عن تضخيم الخطاب الانقسامي، وذكّر بأن عناصر الهوية الوطنية محددة في الدستور ولا يمكن التشكيك فيها باسم حرية التعبير، ودعا إلى تغليب صوت العقل والوحدة الوطنية على أي طروحات يمكن أن تستغلها القوى المعادية. من جانبه، وصف الصحفي لخضر رزاوي ما قاله بلغيث بـ”الجريمة الفكرية المكتملة الأركان”، وذكّر بحالات سابقة مشابهة مثل ما قاله الكاتب بوعلام صنصال. واعتبر أن صمت الدولة على ما سماه “خزعبلات” بلغيث يشجع على التمادي في ضرب الثوابت، وطالب بمحاسبة قانونية عاجلة لكل من يحرض على الكراهية ويفتح أبواب الفتنة باسم التحليل الأكاديمي، محذّراً من تحوّل هذه الانزلاقات إلى عدوى تهدد الوعي العام. أما الناشط الحقوقي زكي حناش، فطالب بإخضاع تصريحات بلغيث للمساءلة الأكاديمية أولًا، قبل التسرع في تجريمها أو الدفاع عنها سياسيًا، مشددا على أن الجامعة يجب أن تتحرك لمساءلة بلغيث كمؤرخ، والتأكد من صحة أطروحاته ومدى انسجامها مع مناهج البحث العلمي والتاريخي، مع الإشارة إلى إلى أن ترك مثل هذه التصريحات دون رد علمي مؤسس يعطي انطباعًا بأن المؤسسات البحثية تبارك الطروحات الإقصائية. وفي الوقت نفسه، طالب حناش بعدم التساهل مع خطاب الكراهية حين يتجاوز عتبة الحرية الأكاديمية إلى دائرة التحريض على التمييز وضرب الوحدة الوطنية، داعيًا السلطات القضائية إلى التدخل عند الضرورة.
وفي خضم الجدل الواسع الذي امتلأت به صفحات مواقع التواصل، برزت أصوات مدافعة عن الأستاذ محمد الأمين بلغيث، رافضة لحملة الانتقادات التي طالته، ورافضة كذلك لأي متابعة قضائية بحقه، معتبرة أن ما صدر عنه يدخل ضمن حرية البحث الأكاديمي والنقاش التاريخي. من هؤلاء، النائب البرلماني عبد السلام بشاغا الذي عبّر عن “تضامنه الكامل” مع الدكتور بلغيث، داعياً إلى تجنب ما سماه “المعارك الوهمية التي يُراد جرّنا إليها باسم المظلومية”. واعتبر أن تصريحات بلغيث – وإن بدت متشنجة – لم تُقصِ مكوناً من مكونات المجتمع، بل جاءت كمحاولة لإعادة تقييم المصطلحات المتداولة في السياق التاريخي. وأوضح بشاغا في تدوينة له أن مصطلحي “أمازيغ” و”أمازيغية” لم يكونا متداولين في الأدبيات التاريخية القديمة، وأن مصطلح “البربر” هو السائد تاريخياً، مشيراً إلى أن “الأمازيغية” كمفهوم سياسي برز في سياق الاستعمار الفرنسي ومحاولته لتفتيت الوحدة الوطنية. كما أشار إلى أن فرضية الأصول الفينيقية أو العربية للبربر ليست فكرة بلغيث الخاصة، بل هي أطروحة أنثروبولوجية تناولها مؤرخون كبار من أمثال ابن خلدون وحتى الدكتور عثمان سعدي.
بدوره، دافع إبراهيم بوحديبة عن الدكتور بلغيث بوصفه “مناضل بعلمه وكلمته ومواقفه”، مشيراً إلى أن المقابلة المثيرة للجدل قديمة وليست تصريحاً جديداً. وأضاف أن بلغيث “بربري نموشي من تبسة” ولا ينكر أصله أو انتماءه البربري، بل يرفض توظيف الأمازيغية كأداة سياسية ضد الوحدة الوطنية، ويرى أنها صنيعة استعمارية وظّفتها فرنسا والصهيونية لتفتيت المجتمع الجزائري. أما عمر مناس، فاعتبر أن الدعوات لاعتقال بلغيث صادرة عن “دعاة الفرنكفونية”، الذين – بحسبه – يسمحون لأنفسهم بانتقاد العروبة واعتبارها أيديولوجيا استعمارية، لكنهم لا يقبلون بأي نقد موجه للأمازيغية. وأضاف أن مقولة “الأمازيغية أيديولوجيا استعمارية والبربر أصلهم عرب” ليست اختراعاً جديداً، بل رأي يتقاسمه “العقلاء والباحثون الجادون” في عموم بلدان المغرب العربي. ويعيد هذا الجدل للأذهان، نقاشات برزت بقوة بين 2018 و2022 على مواقع التواصل، كانت تدافع عن طرح يقول بأن الأصول الأولى للجزائريين ليست أمازيغية بل فينيقية عربية، ما يعني حسب أصحاب هذا الرأي أن الهوية العربية للجزائر ليست وافدة بل أصيلة.
وعبرت صفحة “عرب قسنطينة” على الفايس بوك عن تضامنها مع الأستاذ محمد الأمين بلغيث : ” كل الدعم و المساندة للدكتور محمد الأمين بلغيث و كل ماقاله الدكتور هو صحيح كلنا نعلم أن الإيديولوجية الأمازيغية قد تم توظيفها لأغراض خطيرة تمس الوحدة”. وعلى نفس الصفحة كتب خالد معمري: ” الغلطة لي دارها انو راح تكلم في هاته القناة الصهيو إماراتية وأكاد أجزم انهم برمجوه في الخطئ احنا في فترة حرجة وتحت التعبئة يعني توحيد كل صفوف أبناء الوطن الغالي وهوما استغلو الدكتور رغم اني متأكد من كلامو ألف في المئة”. وعلق بدوره محروش صابر : “متضامن مع الدكتور بلغيث،…لأنه لم يُدلِ بأي تصريح مسيء أو يُنكر وجود الشاوية أو التوارق أو المزابيّة أو القبايل. ما قاله هو أن “الأمازيغية مشروع إيديولوجي استُغل من قبل فرنسا”،..وهو طرح قابل للنقاش، خاصة مع وجود راية موازية يُراد فرضها عبر أحزاب ذات توجهات إيديولوجية،..أو كما سماها “راية جاك بينيت”. وللإنصاف، كان الدكتور بلغيث من أبرز المدافعين عن تاريخ الجزائر وحضارتها، خصوصاً عندما تطاول الرئيس الفرنسي ماكرون وادعى أنه لم تكن هناك أمة جزائرية.”