البعد التحرري والتنويري في فكر عبد الحميد بن باديس

بقلم أسامة ٱغي

مقدمة:

بقيت الجزائر ترسف بقيود الاحتلال الفرنسي لمدة مئةٍ وثلاثين عاماً، حاولت فرنسا خلال هذا الزمن المديد “فرنَسةَ الجزائر” وتغيير عقيدتها من خلال استخدام التعليم، وإشاعة الثقافة الاجتماعية الغريبة عن مجتمع الجزائر ومفاهيمه الوطنية، التي تشكّل جزءاً من ثقافةٍ أشمل هي الثقافة العربية والإسلامية. فقد ” كانت الجزائر أول دولة في المغرب العربي تقع تحت الاحتلال الفرنسي عام 1830 م “(1).

لكنّ هذا الاحتلال لم يجد شعباً مستسلماً للغزو الأجنبي عليه، بل فجّر ثورات وعمليات مقاومة في أغلب مناطق البلاد، ولعلّ ثورة الأمير عبد القادر الجزائري (1832-1847م) شكّلت بوابةً للثورات الجزائرية المتلاحقة، والتي استمرت باستمرار وجود المستعمر الفرنسي، حيث توّجت بثورة التحرير الأخيرة، التي أوصلت البلاد إلى استقلالها في الخامس من تموز/ يوليو 1962، وهو نفس التاريخ الذي أُعلن فيه احتلال الجزائر عام 1930م (2).

لقد لعب الفكر الوطني الجزائري الذي ينتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية دوراً هاماً في منع تغيير العقيدة الدينية للشعب الجزائري، وساهم من خلال هذه العقيدة في الدفاع عن اللغة العربية والثقافة العربية، وحشد الشعب للدفاع عن قضية حريته الوطنية واستقلاله، وتمسكه بهويته الثقافية.

ويعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس (وهو موضوع بحثنا) من أهمّ الأصوات الفكرية والتنويرية الجزائرية في القرن العشرين، والذي “وُلدَ في مدينة قسنطينة سنة 1889 م وسط أسرةٍ من أكبر الأسر القسنطينية، مشهورةً بالعلم والفضل والثراء والجاه، ويمتد نسبها إلى المعز بن باديس الصنهاجي، فهو في مقابل اعتزازه بالعروبة والإسلام لم يُخف أصله الأمازيغي، بل كان يُبديه ويعلنه”(3).

مفهوم التربية عند ابن باديس:

لم يكن أمام النخب الثقافية الوطنية الجزائرية غير البحث عن وسائل وأدوات للدفاع عن هويّة الشعب الجزائري، الذي تتعرض مقومات وجوده إلى التفكيك، يتمّ بناء مقومات جديدة تخدم مفهوم “فرنَسةَ الجزائر” من قبل إدارة الاحتلال الفرنسي. وقد أبدى الشيخ عبد الحميد بن باديس اهتماماً بالغاً بتربية الأجيال الجديدة من أبناء الشعب بالتركيز على تعلّم أصول الدين الإسلامي وعقائده من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فقد كان مهتماً بتكوين “رجالٍ قرآنيين يوجّهون التاريخ، ويعبّرون عن الأمة”، وقد تجلّى توجهه ذلك عبر قوله: “فإننا والحمد لله نربّي تلامذتنا على القرآن من أول يومٍ، وتوجيه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم”(4).

إنّ فهم ابن باديس لعملية تربية الأجيال تندرج ضمن فهمه للإصلاح العقلي، وذلك من خلال إصلاح العقول بالتربية والتعليم، عبر تكوين أجيالٍ قائدةٍ في الجزائر، تعمل على بعث نهضةٍ وطنيةٍ تُخرج البلاد من حالة الجمود والركود إلى حالة الحيوية والنشاط. هذا الفهم يستند إلى فكرٍ يقول إن إصلاح الأمة يتمّ من خلال إصلاح الفرد. وهو فكر آمن به ابن باديس، وعملَ بموجبه على إصلاح الفرد الجزائري، وإعادة بنائه من الناحيتين الفكرية والنفسية.

يعتقد ابن باديس أنّ إصلاح الأخلاق وهو الجزء الأهم من الإصلاح التربوي، يقوم على ضرورة تطهير باطن الفرد، وتهذيب النفس وتزكيتها، هذه الضرورة حاسمة في عملية إنارة الوعي والعقل، وإيجاد معادلٍ أخلاقي تُقاس عليه الأعمال والأفكار. هذا المعادل لا يمكن البحث عنه خارج عقيدة الجزائريين الإسلامية، التي تحتاج إلى إصلاح حقيقي نتيجة فتك الفرنسيين بمقوماتها. هذا المعادل يقوم على مبدأ: إن إصلاح العقيدة يتمّ وفق قاعدةٍ تقول: “لا يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم من سوءٍ وانحطاط “.

إن اهتمام ابن باديس بالتربية يستتبعه اهتمامه بمجال التعليم، حيث عمل على “البدء بحركة علمية من خلال نشاطه التعليمي في المسجد الكبير في مدينة قسنطينة، وانتقل لاحقاً إلى المسجد الأخضر، حيث بدأت دروسه بمجموعة قليلة من التلاميذ، ثم ازدادت أعدادهم حتى نشأت مدارس فكرية متعددة في مختلف البقاع، وخرّجت العديد من قادة حركة النهضة الجزائرية آنذاك”(5).

التربية وخصائصها عند ابن باديس:

لا يمكن فهم عملية التربية لأجيال المجتمع بأنها عملية تقتصر على التعليم، فالتربية تشمل وجوهاً متعددة منها تربية الجسم، وتربية الروح، وتربية العقل. فالإنسان الصحيح هو الذي تكتمل تربيته عبر تربية قدراته الجسدية والذهنية والروحية، وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الحميد بن باديس، حيث قال: “الإنسان مأمور بالمحافظة على عقله وخُلقه وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوّي بدنه بتنظيم الغذاء وتوقي الأذى والتريّض على العمل”(6).

وهناك خصائص تمتاز بها عملية التربية لدى ابن باديس، فهو يرى أنّ الإنسان معني بأن يحوز على تربية روحية، وأنّ المخاطب من الإنسان هو نفسه، وأنّ ما يُظهرهُ الجسد من تصرفات لا يعدو أن يكون انعكاساً لما تضمره تلك النفس التي لا صلاح للإنسان إلاّ بصلاحها”. لذلك تعبّر الآيتين الكريمتين “قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها”(7). عن هذا المعنى.

فالمعنى المُراد من التربية الروحية هو الابتعاد عن كل المساوئ الأخلاقية، وبناء النفس على قيمٍ أخلاقية تسمو بالفرد اجتماعياً، فيغدو فرداً نافعاً لقومه. وهذا يحتاج إلى تطهير الروح من كلّ مثالبها ونزواتها، فالإنسان لدى ابن باديس هو ذلك (المهيّأ للكمال بما فيه الجزء النوراني العلوي “روحه”، وهو معرّض للسقوط والنقصان بما فيه من اختلاط عناصر جزئه الأرضي “جسده”. ولا يخلص من كدرات جثمانه، ولا ينجو من أسباب نقصانه إلا بعبادة ربّه، التي بها صفاء عقله، وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه)(8).

وباعتبار أنّ الروح القوية تحتاج إلى جسدٍ قوي معافى، دعا الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الاهتمام بسلامة الجسد وقوته، فهو يرى أنّ الجسد الضعيف يقلُّ عطاؤه الاجتماعي والعقلي. وهذا ما يبعده عن دورٍ فعّالٍ في المجتمع. فالرياضة برأي ابن باديس إضافة إلى الغذاء ذي النوعية الجيدة، يلعبان دوراً كبيراً في صحة الجسد وسلامته، وهذا يتوافق مع قول الله تعالى: “يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم”(9).

إنّ التربية البدنية والروحية تحتاج إلى تربية سلوكية لتكتمل، فما فائدة المعرفة بدون تحويلها إلى فعلٍ وعمل؟!. وما فائدة التربية إذا لم يتبناها المرء بكلّ صورها كي يُصبح إنساناً اجتماعياً فاعلاً. وهذا ما دفع ابن باديس إلى أن يكون من بين تلاميذه ومريديه رجال عمليّون يطبّقون ما يتعلمونه، فيعبدون الله على علم وبصيرة. لذلك كان ديدن ابن باديس أن يحضّ تلامذته على تمثّل الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم، وهذا ما يجعل من التربية العقلية ركناً من أركان بناء الإنسان السوي الفاعل والنافع لأهله وقومه.

العقل لا ينمو بغير العلم والمعرفة والثقافة، والعلم ليس لوناً واحداً هو العلم الديني، بل هناك علوم الدنيا كالرياضيات والطبّ والهندسة وغيرها الكثير. يقول ابن باديس: “حافظ على عقلك فهو النور الإلهي الذي مُنحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك”(10).

الشخصية الوطنية لدى ابن باديس:

لم ينس الجزائريون دور الفكر التنويري والحضّ على طرد الأجنبي عن البلاد الذي عمل لأجله طويلاً الشيخ عبد الحميد بن باديس، فلقد اعتمدت الدولة الجزائرية تاريخ السادس عشر من إبريل/نيسان يوماً للعلم في الجزائر، وهو يتوافق مع يوم وفاة ابن باديس. وهذا تكريم لدور هذا الرجل في حياة المجتمع الجزائري في فترة مقاومة الاستعمار الفرنسي.

كان ابن باديس على قناعةٍ عميقةٍ أن اليد الواحدة لا تصفّق بمفردها، وبالتالي عمل على جمع كل علماء الدين الجزائريين الذين يتقاطعون حول ضرورة حماية المجتمع الجزائري من إفساد الاحتلال، من خلال تشكيل جمعية أطلق عليها اسم جمعية علماء المسلمين. ويمكن القول إن هذه الجمعية لعبت دوراً حاسماً في الحفاظ على هوية المجتمع الجزائري العربية الإسلامية. لا بل لعبت دوراً أساسياً في إيجاد جيلٍ جديدٍ من الكتّاب والمثقفين الجزائريين، ممن ينتمون إلى الحضارة العربية الإسلامية.

لقد قاد ابن باديس إصلاحاً جزائرياً خالصاً، تعامل مع الواقع الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي، استهدف إعادة إحياء هويّة الإنسان الجزائري(11).

هذا الإصلاح كان يحتاج إلى أدوات لنشره بين الناس، فبعد أن قام ابن باديس بتأسيس جمعية علماء المسلمين سنة 1931 عمد إلى إصدار صحيفة أسماها “الشهاب” وهي صحيفة أسبوعية يبثّ من خلالها آراءه في الإصلاح.

كانت نظرية ابن باديس في الإصلاح تعتمد على فكرة “التربية لا بدّ أن تبدأ من الفرد، فإصلاح الفرد هو الأساس”.

يقول ابن باديس: “كان القطر الجزائري قريباً من الفناء، ليس له مدارس تعلّمه، وليس له رجال يدافعون عنه ويموتون عليه، بل كان في اضطرابٍ دائمٍ مستمر، ويا ليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية، التي لا تعطيهم غالباً من العلم إلاّ الفتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف، حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم، وقد ينكرونا، هذه هي حالتنا التي كنا عليها في تاريخنا الحديث”(12).

لذلك يعتقد ابن باديس أنّ هذا التردي العام، الذي يعيشه المجتمع الجزائري، أساسه هو الجهل بحقائق الدين، والجمود في فهمه، والإعراض عن العمل به، والفتور في العمل.

لقد نصّ الاتفاق الجزائري الفرنسي المبرم في 5 يوليو/تموز عام 1830 في مادته الخامسة على: “أن الدين المحمدي سيبقى معمولاً به كما كان سابقاً، إنه سيبقى على ما هو عليه، وأن حرية أهل البلاد مهما كانت طبيعتهم ستبقى محترمة، وأن دين هذا الشعب وممتلكاته وتجارته وصناعته بالإضافة إلى نسائه ستبقى محترمة أيضاً”(13).

لكنّ الفرنسيين ضربوا عرض الحائط بهذا الاتفاق، وبدؤوا سياسة “فرنسة الجزائر” وقد قال الكاردينال لافيجري: “إن عهد الهلال في الجزائر قد عبر، وأن عهد الصليب قد بدأ، وأنه سيستمر إلى الأبد”(14).

إذاً يمكن القول إن “تأسيس جمعية علماء المسلمين عام 1931، كان الهدف منه جمع شمل علماء الأمة، بهدف تنسيق الجهود فيما بينهم، لتحقيق الإصلاح الديني، وفق أهدافٍ محددةٍ، وخطةٍ محكمةٍ بينهم”(15).

وبعد هذه الخطوة أوحى ابن باديس بفكرة إنشاء الكشافة الإسلامية الجزائرية، حيث قام محمد بوراس بإنشاء هذه الكشافة عام 1933. وكان المراد من إنشائها هو تربية النشئ الجزائري على حبّ وطنه، وعلى تمثّل الأخلاق الإسلامية النبيلة.

لجأ ابن باديس ومعه كثير من علماء الدين الإسلامي في الجزائر إلى تشكيل جمعيات ثقافية يرتادها المثقفون الجزائريون، لتكون منصات لتداول الفكر والرأي حول ما يحدث للأمة وللبلاد. هذه النوادي وغيرها من الوسائل الأخرى كان ابن باديس يستعملها لنشر فكره الإصلاحي والوطني في صفوف الشعب الجزائري، وهو لم يدع باباً من أبواب نشر الوعي إلا وعمل على فتحه، لذلك كان يؤمن بضرورة الاستفادة من كل طاقات الشباب الجزائري وتحويلها إلى طاقات إبداع رياضية أو موسيقية أو مسرحية، وحتى أدبية. فالهدف الأساس لدى ابن باديس هو رقي الجزائريين ووطنيتهم، وخروجهم من واقع الانحطاط والتخلف الذي وضعهم فيه الاحتلال الفرنسي.

ضدّ الاندماج:

لم يترك الشيخ عبد الحميد بن باديس بلاده لينشد سلامه الفردي، بل تزوّد بالعلم من تونس، وزار بلاد الحرمين الشريفين، ولبث بين قومه وشعبه، حيث قال بالفم الملآن بعد عودته من الحجاز إلى وطنه: “فرجعنا إلى الوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حرّاس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذه المرحلة”(16).

بهذا القول ابن باديس يعني أنه لن يقبل أن تُصبحَ الجزائرُ جزءاً من فرنسا، فهو يرى أنّ الأمة الجزائرية المسلمة متكونة وموجودة كما تكوّنت ووجدت أمم الدنيا كلها، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة، وعوائدها، وأخلاقها، بما فيها.

كان ابن باديس يعتقد أن مسؤولية علماء الدين الإسلامي كبيرة أمام الله وأمام الشعب، فباعتبارهم أكثر معرفة وثقافة ووعياً من باقي فئات المجتمع، تقع عليهم مسؤولية توعية الناس وتحريضهم على الدفاع عن هويتهم وانتمائهم. وهذه المسؤولية تتمثّل بتأصيل الثقافة الوطنية التي هي جزء من ثقافة الأمة العربية المسلمة. والتأصيل يأخذ على عاتقه مهمة نشر هذه الثقافة، وجعلها هويّة لكل أبناء الشعب. كما يأخذ مهمة مقاومة الاندماج الذي يعمل عليه المحتلّ الفرنسي، فالاندماج حسب رأي ابن باديس هو استبدال للهوية الوطنية والتاريخية الجزائرية بهوية الأجنبي وتابع للفرنسيين. وهذا يشكّل خطراً حقيقياً على البناء المجتمعي الجزائري، ويحتاج إلى مواجهة فعالة وتحديداً مع الذين يروّجون له من أبناء الشعب الجزائري المرتبطين بعجلة الاحتلال الفرنسي. يقول ابن باديس “نحن العلماء المتحدثون باسم غالبية الأهالي نقول للذين يحسبون أنهم فرنسيون: إنكم لا تمثلوننا، فالشعب الجزائري المسلم له تاريخه ووحدته الدينية، ولغته، وثقافته، وتقاليده. هذا الشعب المسلم ليس فرنسياً، ولا يمكن أن يكون فرنسياً، ولا يريد أن يكون فرنسياً”(17).

ولزيادة فعالية مقاومة سياسة التجنيس، التي كان يعمل عليها المحتل الفرنسي وأعوانه من الجزائريين، أصدرت جمعية علماء المسلمين الجزائريين فتوى دينية تنصّ على “تكفير كل من يتجنّس بالجنسية الفرنسية، ويتخلى عن أحكام الشريعة الإسلامية”، وقد صادقت على هذه الفتوى لجنة الإفتاء بالجمعية، وتمّ نشرها في جريدة البصائر. تقول الفتوى: “التجنيس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكماً واحداً من أحكام الإسلام عُدَّ مرتداً عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع، والمتجنس بحكم القانون الفرنسي يجري تجنيسه على نسله، فيكون قد جنى عليهم بإخراجهم من حظيرة الإسلام”(18).

وعيُ ابن باديس لطبيعة العلاقة الراجحة لمصلحة الاحتلال الفرنسي دفعه إلى البحث عن صيغةٍ تجعل المحتل الفرنسي يقبل أو على الأقل يتفهم دوافع دعوة ابن باديس الذي يؤمن أن الأمة الجزائرية في تلك الظروف هي أمة ضعيفة ومتأخرة، ومن الضروري أن تكون في كنف أمةٍ قوية عادلة متمدنة، لترقيها في سلم المدنية والعمران، ونرى هذا في فرنسا التي تربطنا بها روابط المصلحة والوداد.

إذاً فهمُ ابن باديس للعلاقة بين المحتل الفرنسي (المتمدّن)، والشعب الجزائري (المتخلّف) هو فهم جدلي يقوم على مبدأ تبادل المنفعة بين الطرفين، فالحكومة الفرنسية مطالبة بتفهم رغبات الشعب الجزائري، وتحديداً الموافقة على حقوقه لديها من خلال قوى الضغط الفرنسية التي تدافع عن حق الشعوب.

نظرة ابن باديس لدور المرأة:

الإصلاح، أي إصلاحٍ، اجتماعياً كان أو سياسياً أو قانونياً لا يستقيم بغير أن يشمل بنى المجتمع كلها، وينصف المرأة فيها، فالمرأة هي نصف المجتمع، وهي الأم التي تربي أبناءها. وباعتبار الأسرة هي الوحدة الأولى في البناء المجتمعي، ستكون مهمة المرأة الأم مهمة كبيرة في الإعداد التربوي السليم لأبنائها، فكيف تبني الأم قواعد تربية الأبناء وهي جاهلة وأميّة ومتخلفة. لهذا السبب الخطير ذهب ابن باديس إلى القول “إنّ البيت هو المدرسة الأولى، والمصنع الأصلي لتكوين الرجال، وتديّن المرأة هو أساس حفظ الدين والخلق، والضعف الذي نجده من رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت، وقلة تدين الأمهات”(19).

هذه الرؤية العميقة لطبيعة دور المرأة دفع ابن باديس إلى تأسيس جمعية التربية والتعليم، حيث كان حريصاً أن يتضمن قانونها الأساسي أن يكون تعليم البنات مجانياً سواءً كنّ قادرات على دفع مصاريفه، أم عاجزات عن دفعها، وذلك لتشجيعهنّ على الإقبال على الدراسة، فتعليم البنت يؤهلها لأن تلعب لاحقاً دور الأم التي تعي قواعد دينها وثقافتها الوطنية، وتنقل ذلك عبر عملية التربية إلى وعي أبنائها.

لكنّ اهتمام ابن باديس لم يتوقف عند المرأة فحسب، بل ذهب إلى العناية بالشباب الجزائري، حيث بيّن أهمية إنشاء أندية ومؤسسات شبابية جزائرية، ترتبط بمفاهيم وطنية جزائرية، وليس بمفاهيم الاحتلال. لذلك نجده كان رئيساً شرفيّاً لأول مؤتمرٍ كشفي ينعقد في الجزائر عام 1930.

لقد اختار ابن باديس طريق البناء الدعوي بين فئات المجتمع الجزائري، وهو خيار اعتقد صاحبه أنه يبني قاعدةً صلبةً في شروطٍ كانت تعمل لغير المصلحة الوطنية الجزائرية. ولذلك كان لا يترك للمحتلّ الفرنسي فرصة الانقضاض على نشاطه الدعوي، لأنه كان يدرك أنّ أي مواجهة قبل أوانها مع المحتل ستؤخر كثيراً من بناء القوة الوطنية الجزائرية الضرورية لتحرير البلاد من براثن الاحتلال.

فكر ابن باديس التحرري:

لم يكن الفكر الإصلاحي والتنويري عند ابن باديس فكراً مقتصراً على إحياء تراث الشعب الجزائري المسلم حمايةً له من تغوّل الاحتلال في البناء الثقافي والهوية الوطنية الجزائرية. بل كان فكراً شاملاً يختصّ بتطوير البنية المجتمعية الجزائرية في كل أنساقها المكونة لها، من نسق الهوية الوطنية، إلى نسق استشراف المستقبل الوطني الذي يبنى على ترسيخ قيمة العلم والمعرفة والحفاظ على الأصول المعتقدية الإسلامية. ويمكن القول: إن فكر ابن باديس كان فكراً تحررياً عميقاً لعب دوراً لاحقاً في قيام الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954م. هذا الفكر أدرك طبيعة الصلة القائمة في ظل الاحتلال الفرنسي آنذاك، وأدرك كيفية بناء أذرع مواجهتها بشكل استراتيجي، حيث فهم العوامل التي ترسّخ الاحتلال، والعوامل التي تعجّل في الخلاص منه. كذلك استطاع هذا الفكر تبيّن الأدوات التي يستخدمها المحتل الفرنسي لتأبيد سلطة احتلاله للبلاد. لذلك وجد ابن باديس أن فساد السلطة الوطنية والقائمين عليها هو انحطاط يدمّر الأمة. وهذا ما دفعه إلى التمييز الفكري بين الأسباب والنتائج لكل ظاهرات الانحطاط الاجتماعي والفكري في الجزائر. يقول ابن باديس: “إذا جار السلطان في تدبير الأمة والتصرف في شؤونها فسد كل شيء، وفسدت القلوب والعقول والأعمال والأحوال، وانحطت الأمة في دينها ودنياها إلى أحطّ الدرجات، ولحقها من جرائه كل شرٍّ وبلاءٍ وهلاكٍ، ثم يتفاوت ذلك الفساد بحسب الجور في قدره وسعته ومدة بقائه”(20).

ويعتقد ابن باديس أن الفساد العظيم الذي انتشر في عموم بلاد المسلمين سببه استبداد قادتهم، وأن هذا الفساد الذي ينخر كيان الأمة المسلمة سيزداد إذا تولّى أمرها وحكمها الأجنبي، الذي ليس من دينها، ومن ثقافتها. وعي ابن باديس يقوم على التمييز بين ضرورتين فكريتين مختلفتين من حيث الجذر والبناء والمآل. فالاحتلال يريد السيطرة على الجزائريين عبر دفعهم إلى الديانة المسيحية، وهذا شرط لاستمرار الاحتلال، ولكن المجتمع الجزائري حسب وعي ابن باديس وفهمه سيخسر وجوده وكيانه الوطني حين يقبل بالتخلي عن دينه وتراثه الإسلامي، ولهذا كان من الضرورة التمييز بين حاجات الديانتين بالنسبة للجزائريين. كان ابن باديس يعي أن هناك علماء دينٍ جزائريين يتعاونون مع المحتل الفرنسي، وتحديداً من ينتمون إلى “الصوفية المخادعة” فهؤلاء العلماء كان يزدرون ابن باديس، ويستهينون بفكره. وكان هو يحتقرهم لأنه يدرك أن مادة بحثهم لا تخرج عن نطاق البحث التراثي، ويدعون أنهم من أنتج هذا الفكر.

لقد أدرك ابن باديس أن إصلاحه يعترضه معوقات كثيرة منها التصوف المخادع، ومنها أيضاً ضخامة وشمولية الغزو الأوربي المنظم للعالم الإسلامي ولبلده الجزائر. ولكن من المعوقات الجزئية التي تقف بوجه الإصلاح كانت الخيانات الفكرية والسياسية التي قامت بها شخصيات دينية وسياسية ربطت مصيرها بإدارة الاحتلال الفرنسي. وكذلك وجود شخصيات فكرية عميلة للاحتلال تعمل على تزييف الوعي عند الجزائريين، إضافة إلى القوانين الجائرة للاحتلال الفرنسي.

خاتمة:

إن الجهد الفكري الذي نهضت عليه ثورة الجزائر ضد الفرنسيين ونالت بموجبه استقلالها عام 1962 يقوم على جهود ابن باديس الذي أسس هيئة علماء المسلمين، والتي استطاعت أن تحرّض على نهوض قوى الأمة الجزائرية عبر رؤية استراتيجية شاملة، ارتكزت على بناء الإنسان الجزائري بناءً فكرياً واجتماعياً وعقلياً وطنياً، ينتمي إلى تاريخ وثقافة الشعب الجزائري العربية والإسلامية. لذلك يندرج جهد الشيخ عبد الحميد بن باديس ضمن رؤية فكرية إصلاحية شاملة، وضمن رؤية تنويرية لعبت دوراً حاسماً في تركيز وعي الجزائريين لتاريخهم وهويتهم. واستنهاض هذا الوعي الجمعي ليشكّل لاحقاً رافعةً للثورة الجزائرية العظيمة التي قدمت على مذبح انتصارها أكثر من مليون شهيد.

ثبت بالمراجع:

1-              Mawdoo3.com متى احتلت فرنسا الجزائر – صفاء شريح – 14يونيو/حزيران 2017

2-              www.almaany.com استقلال الجزائر

3-              Ferkous.com نبذة عن حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس

4-              المصدر السابق

5-              Mawdoo3.com تعريف عبد الحميد بن باديس 19 فبراير/ شباط – إيمان الحياري

6-              Binbadis.net خصائص التربية عند ابن باديس – مصطفى محمد حميداتو 24/12/2017

7-              سورة الشمس – الآيتان (9 – 10)

8-              binbadis.net خصائص التربية عند ابن باديس مصطفى محمد حميداتو 24/12/2017

9-              سورة المؤمنون الآية 51

10-          Binbadis.net خصائص التربية عند ابن باديس مصطفى محمد حميداتو 24/12/2017

11-          www.algazeera.net ابن باديس- رمز الإصلاح والتنوير نور الهدى غولي 26/4/2011

12-          www.academia.eud الفكر السياسي عند الشيخ عبد الحميد بن باديس مسعود جباري رسالة ماجستير 2001 /2002

13-          Mokhtari.over-blog.org اتفاق بين الكونت دي بورمون وسمو داي الجزائر

14-          www.academia.eud الفكر السياسي عند الشيخ عبد الحميد بن باديس مسعود جباري رسالة ماجستير 2001/2002

15-          Vb.3dlat.com

16-          Islahway.com من مواقف العلامة ابن باديس البطولية د. محمد حاج عيسى الجزائري 26/5/2014

17-          Binbadis.net الإمام ابن باديس ومواقفه من الإندماج د. خالد يوهند 30/8/2012

18-          المصدر السابق

19-          Blogs.algazeera.net العلامة ابن باديس وجهوده في إصلاح المجتمع د.علي الصلابي 6/5/2018