المشهد السوداني المتأجج.. القاهرة بين التورط والتهدئة

بقلم عماد عنان

تستمر المواجهات بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لليوم الثاني على التوالي، حيث سمع دوي انفجارات فجر اليوم في عدد من المناطق جنوب العاصمة الخرطوم وبعض المدن الملاصقة لها، وقد أسفرت عن سقوط 56 قتيلًا بين المدنيين فضلًا عن 600 جريح، وسط تضارب في البيانات بشأن الوضع الميداني بين القوتين.

ارتدادات عدة متوقعة لمعركة الصراع على السلطة بين الجنرالين، التي يُخشى حال تطورها أن تتحول إلى حرب أهلية شاملة، لن يتورط فيها أبناء السودان فقط، بل ستُجر إليها الدول الحدودية الملاصقة للدولة على أقل تقدير، مدفوعة باعتبارات الأمن القومي التي تتجاوز الحدود الجغرافية في كثير من الحالات، ناهيك بالقوى ذات الأجندات الإقليمية والدولية.

وتعد القاهرة على رأس تلك الدول المتوقع أن تحظى بنصيب الأسد من تلك الارتدادات، فالسودان هو الحديقة الخلفية للأمن القومي المصري، وأحد المحاور الرئيسية في الجدار الأمني للدولة جنوبًا وغربًا، فضلًا عما يمثله من محطة محورية في مسار الأمن المائي وملف سد النهضة، فأي تداعيات يمكن أن تثيرها الفوضى التي تشهدها السودان حاليًّا على الجانب المصري؟

الموقف المصري.. ترقب وحراك دبلوماسي

بعيدًا عن تأثيرات المشهد على المصريين بحكم الحدود المتلاصقة، إلا أن القاهرة وجدت نفسها منخرطة بشكل مباشر في الأزمة بعدما نشرت قوات الدعم السريع مقاطع فيديو لضباط وجنود مصريين جرى ضبطهم في قاعدة “مروي” الجوية، وحملت المقاطع الكثير من دلالات الإهانة للجنود المصريين وطريقة جلوسهم ووضع أيديهم فوق رؤوسهم كالأسرى، ما أثار حفيظة الشارع الذي طالب برد حاسم وسريع على تلك المشاهد المهينة، رغم تصريحات مسؤولي قوات الدعم بأن التعامل مع المصريين هناك يتم بشكل مقبول دون أي تجاوزات وأنهم على استعداد لإعادتهم لمصر حال طلبت ذلك.

الجيش المصري في بيان أولي له أكد أنه يتابع عن كثب ما يجري في السودان، ويسعى لتأمين القوات المصرية الموجودة هناك، مبررًا وجودها بأنه جزء من تدريب مشترك بين الجيشين المصري والسوداني في القاعدة الجوية السودانية، خلال شهر أبريل/نيسان الحاليّ في إطار تفاهمات عسكرية أمنية بين البلدين.

التزم الجانب المصري التريث في بياناته وتصريحاته، متجنبًا استخدام لغة خطاب حادة أو عدائية، وذلك لاعتبارات كثيرة أبرزها الحفاظ على حياة الجنود المصريين هناك بجانب مغبة الاصطفاف المبكر والتخندق مع أي فصيل من الطرفين، وهو ما قد تدفع مصر ثمنه من أمنها القومي والمائي معًا.

ليس من مصلحة الجانب المصري تحديدًا إشعال الموقف في الفناء الجنوبي للدولة، وعليه فإن الحديث عن دور مصري في تأجيج المشهد السوداني بهذه الطريقة حديث يفتقد للموضوعية في كثير من مساراته

وحاولت القاهرة طرق أبواب الدبلوماسية لحل الأزمة حرصًا منها على احتواء الموقف قبل تجاوزه للخطوط الحمراء، حيث أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالًا هاتفيًا مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أكد خلاله خطورة تداعيات التطورات على استقرار السودان، كما دعت مصر والسعودية إلى اجتماع عاجل اليوم على مستوى المندوبين داخل الجامعة العربية لبحث الوضع السوداني.

وفي بيان لوزارة الخارجية المصرية دعت رعاياها بالسودان إلى “توخي الحيطة والحذر، والابتعاد عن مناطق التوترات، والتزام المنازل لحين استقرار الأوضاع”، وأفادت بأن “القطاع القنصلي بوزارة الخارجية المصرية يتابع على مدار الساعة أوضاع المواطنين المصريين المقيمين في كل أنحاء السودان الشقيق على خلفية التوترات التي يشهدها”، كما أهابت بـ”كافة المصريين الموجودين في السودان التواصل مع السفارة حال تعرضهم لأي مخاطر، وذلك لتقديم الرعاية اللازمة لهم”.

تضارب الروايات.. مشهد فوضوي

ومما يزيد الوضع تأزمًا تضارب الروايات بين الطرفين المتحاربين، حيث زعمت قوات الدعم السريع بسيطرتها على معظم المقرات والمواقع الإستراتيجية، وأن مقر القيادة العامة بات في قبضته، وفي المقابل ينفي الجيش تلك الأنباء ويؤكد أنه يهمين بشكل كامل على الميدان، وأن سقوط الدعم مسألة وقت لا أكثر.

حتى مسألة المتسبب في إشعال الموقف وإطلاق الرصاصة الأولى تأرجحت بين الطرفين، فالجيش يتهم الدعم بأنها من بادرت بالهجوم على قواته بجوار المدينة الرياضية جنوبي العاصمة الخرطوم، وفي المقابل ردت قوات حميدتي في بيان لها إنه “امتدادًا للهجوم الذي تعرضت له قوات الدعم السريع المتمركزة في مقرها بأرض المعسكرات سوبا جنوبي الخرطوم فإن القوات المسلحة هاجمت في وقت متزامن مواقع ومقرات قواتنا في الخرطوم ومروي ومدن أخرى جاري حصرها” وتابعت: “قامت قوات الدعم السريع بالدفاع عن نفسها والرد على القوات المعادية وكبدتها خسائر كبيرة وتمكنت من السيطرة على مطار وقاعدة مروي، وطرد المعتدين على مقر القوات بأرض المعسكرات سوبا والسيطرة على مطار الخرطوم”.

وعن دوافع القتال، قال البرهان إن قوات الدعم تمردت وأنها باتت تشكل خطرًا على أمن واستقرار الدولة، لذا لا بد من تقليم أظافرها وتطويقها، وفي المقابل قال حميدتي إنهم أجبروا على القتال، وإن قواته لن تستسلم، وإن ما يحدث هو ثمن للديمقراطية من أجل تسليم السلطة للشعب.

هذا التضارب الذي أسفر عن فوضى حقيقية في المشهد يصعب من موقف القاهرة بطبيعة الحال، ويدفعها للتفكير مليًا قبل التورط في المعركة بصورتها الحاليّة، رغم أن دعم الجانب المصري للبرهان والجيش السوداني معروف وليس فيه شك أو مواربة، كما هو حال دعم الإمارات لحميدتي وقوات الدعم السريع لتنفيذ أجندات خاصة بأبناء زايد في الداخل السوداني.

القاهرة.. تداعيات خطيرة وتحركات محسوسة

ليس من مصلحة الجانب المصري على وجه التحديد إشعال الموقف في الفناء الجنوبي للدولة، وعليه فإن الحديث عن دور مصري في تأجيج المشهد بهذه الطريقة حديث يفتقد للموضوعية في كثير من مساراته، فالقاهرة أحرص على إبقاء الوضع هادئًا في السودان مع الوضع في الاعتبار الحيلولة دون ظهور ميليشيات مسلحة تهدد الأمن المصري مستقبلًا، وهو ما يدفع مصر لدعم الجيش وبالتالي البرهان، بما يتماشى مع العقيدة العسكرية المصرية التي تميل إلى دعم الجيوش النظامية في الأساس مهما كان وضعها وسلوكها، وتتريب من أي فصائل أخرى خاصة لو كانت مسلحة، كما الوضع في سوريا وليبيا.

قد تكون مصر على رأس الدول الأكثر تأثرًا بتلك التطورات، فالفوضى الأمنية والسياسية والعسكرية التي يشهدها السودان ستشكل حتمًا تهديدًا للأمن القومي المصري جنوبًا، فالأرض هنا قد تكون خصبة لنمو فصائل جديدة مسلحة، هذا بخلاف احتمالية حدوث نزوح جماعي لمصر وليبيا تحديدًا، وهو ما يشكل خطرًا اجتماعيًا وأمنيًا على الجانب المصري، مع الوضع في الاعتبار ترجيح تغذية مقاتلين سودانيين للجماعات المسلحة في ليبيا مثلًا نظير مقابل مادي هربًا من الوضع الداخلي في السودان، ما يمثل هو الآخر تهديدًا للحدود الغربية المصرية.

سودان ما قبل 15 أبريل/نيسان 2023 لن يكون كما بعده، سواء أسدل الستار على تلك المواجهات أم لم يسدل، وسواء انتهت بانتصار طرف دون الآخر أم تم التوصل إلى اتفاق بينهما، فما حدث شرخ كبير في جدار الدولة سيكون له ما له

بعد آخر لا يقل أهمية يدفع القاهرة للتفكير جيدًا قبل التورط في المشهد، وهو المتعلق بالأمن المائي المصري، فاستمرار الوضع على ما هو عليه من عراك واحتراب بين الجيش وقوات الدعم قد يسفر عن كارثة محققة إذا ما لجأ حميدتي حال خسارته مثلًا إلى سياسة الأرض المحروقة بما يهدد سد النهضة الذي ليس ببعيد عن مرمى السودانيين، وهو ما يعني كارثة بيئية ومائية محققة على الشعبين السوداني والمصري معًا.

وفي سياق متصل، فإن خريطة الصراع بتفاصيلها تلك على مدار اليومين الماضيين قد تضع القاهرة في مواجهة سياسية حرجة أمام حلفائها، خاصة الإمارات، الممول والداعم الأكبر لحميدتي، خاصة أن المواجهات اندلعت بعد زيارة الرئيس الإماراتي محمد بن زايد للقاهرة بيومين فقط، وهو ما يرجح أنها كانت بهدف بحث المشهد السوداني، وأن الطرفين، السيسي وبن زايد، لم يتوصلا إلى حل مرضٍ بشأن تبريد الأزمة بين حميدتي والبرهان، في ظل تباين الأجندات هنا وهناك، مع الوضع في الاعتبار تعدد اللاعبين الدوليين داخل الساحة السودانية، ما يزيد من تعقيد الأزمة.

كل تلك العوامل تجعل من التحرك المصري إزاء تلك الأزمة تحركًا محسوسًا بخطوات محسوبة جيدًا، وإن كان ذلك لا يعني عدم الانخراط المصري لدعم الجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم لحسم المعركة مبكرًا، لكن بشكل غير مباشر، وفي أضيق الحدود تجنبًا لأي رد فعل انتقامي من حميدتي وجنوده إذا ما تكشف مثل هذا الأمر وتم التعامل مع مصر كطرف مباشر في الحرب، وهو ما تتجنبه القاهرة تمامًا.

وعليه فإن سودان ما قبل 15 أبريل/نيسان 2023 لن يكون كما بعده، سواء أسدل الستار على تلك المواجهات أم لم يسدل، وسواء انتهت بانتصار طرف دون الآخر أم تم التوصل إلى اتفاق بينهما، فما حدث شرخ كبير في جدار الدولة سيكون له ما له، وهو ما سيجبر القاهرة على إعادة النظر في كثير من المسائل والملفات والتوجهات للتعامل مع تلك التطورات الخطيرة -وأي تطورات أخرى محتملة – في عمقها الجنوبي الذي بات رخوًا بالصورة التي تهدد أمن الدولة واستقرارها السياسي والأمني والمائي.

المصدر : نون بوست