معركة شرق الفرات ومخاطر الحرب الإقليمية
بقلم أحمد الدرزي ـ كاتب سوري
تتوارد الأنباء والمعلومات عن كثافة الحشود العسكرية المتبادلة على ضفتي نهر الفرات قرب الميادين وحقل كونيكو، إذ دفعت الولايات المتحدة بـ1700 عربة مدرعة من إقليم أربيل في العراق باتجاه منطقة القرى السبع في شرقي النهر. في المقابل، هناك حشود عسكرية سورية كبيرة، مرفقة بالطيران السوري والروسي، إضافةً إلى قوى عسكرية إيرانية، بطريقة تدفع إلى الاعتقاد بأننا أمام معركة عسكرية حاسمة، ليس لمستقبل سوريا فقط، إنما لمستقبل إقليم غرب آسيا أيضاً وارتباطه بالمشروع الأوراسي ومبادرة “الحزام والطريق”.
يأتي هذا التحول نحو المواجهة العسكرية الكبرى في سياق ما يجري من صراع كبير على أكثر من ساحة دولية، فكل الأطراف التي تحشد في هذه المنطقة تعيش أزمات تخصها، كنتيجة للصراع على بنية النظام الدولي والإقليمي، وخصوصاً القوى الإقليمية التي تتقلّب في اصطفافاتها، عدا عن الوضع الداخلي المتأزم لأكثر دول الإقليم.
وعلى الرغم من استمرار الولايات المتحدة في تربعها كقوة مهيمنة وحيدة القطب عالمياً، فإنها تتعاطى بشكل متسارع مع التهديدات المتزايدة لهذه المكانة وما تحمله من تهديدات اقتصادية، وخصوصاً مع الصين.
تحتاج الولايات المتحدة إلى كسر روسيا في أوكرانيا لفكّ التحالف الصيني الروسي، وإلى هزيمة إيران ذات القيمة الجيوسياسية الأكثر أهمية في قلب آسيا وغربها، والتي تعد ضلع المثلث الأساسي مع الصين وروسيا كقوة مندفعة لإخراج الأميركيين من غرب آسيا، وهي باستعداداتها الكبيرة للمعركة تسعى لقطع الطريق البري مع العراق، وما يعني ذلك من محاصرة إيران وإسقاط سوريا بخنقها اقتصادياً وعسكرياً.
في المقابل، تجد روسيا نفسها في حلٍ من التفاهمات السابقة مع الغرب عموماً، بعدما سقط وهم الشراكة معه، وفي حلٍ أيضاً من التفاهمات التي صِيغت مع الولايات المتحدة في سوريا لمنع التماس العسكري بينهما، إضافة إلى التفاهمات السياسية بينهما على المستقبل السياسي لسوريا، بعدما أصدرت الدولتان قرار مجلس الأمن 2254 الذي ينص على الحكم الانتقالي. كل ذلك بعدما خاض الروس حربهم مع الناتو في أوكرانيا.
وقد ازدادت المخاطر على روسيا بعدما بدأت رهاناتها على تركيا بالتلاشي إثر نجاح الرئيس إردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وعودته إلى الاصطفاف الكامل مع حلف الناتو، وما يعنيه ذلك من تهديد لإغلاق الممرات البحرية نحو المتوسط، إضافة إلى عودة الدور التركي الفاعل في قلب روسيا ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، باستخدامها العامل القومي الطوراني والعامل الديني المذهبي.
روسيا في هذه المعركة ستدفع الأميركيين إلى الخروج من سوريا، والعراق أيضاً كخطوة ثانية، وبالتالي فإن عودة منطقة الجزيرة السورية إلى سيطرة دمشق، تسقط مبررات تركيا بالبقاء في الشمال السوري بذريعة حماية الأمن القومي التركي مما تعتبره تنظيمات إرهابية، وتدفعها من جديد إلى إعادة تموضعها الجيوسياسي للمرة الرابعة من خارج الحسابات الأميركية.
وعلى الرغم من اختلاف الدوافع الإيرانية من المعركة، فمن الواضح أنها تحتاج إلى هزيمة الولايات المتحدة في سوريا، وهي التي تخوض معها معركة العقوبات الاقتصادية الأميركية المؤثرة في بنيتها الداخلية من جهة، ومعركة الإبقاء على الطريق البري نحو شرق المتوسط من جهة ثانية.
وبمشاركتها الكبيرة في هذه المعركة، فهي تحتاج إلى الشراكة مع روسيا وسوريا لإخراج الأميركيين من غرب آسيا، بما يعزز دورها الإقليمي، وبما يدفع بقية القوى الإقليمية إلى التسليم بحجم هذا الدور، والذهاب نحو حلول أمنية وسياسية واقتصادية لمصلحة الجميع، بعيداً من التدخل الغربي.
وعلى الرغم من فتح إيران أبواب المصالحة مع السعودية، فإن مسار تلك المصالحة لم يصل إلى نتائج مقبولة وفقاً للخطة الزمنية المتفق عليها بفعل الملفين اليمني والسوري اللذين لم يتم التوصل فيهما إلى حلول بعد بما يرضي الدور الإقليمي الطامح إلى السعودية، عدا عن مخاوف ما يتم العمل عليه من نظام إقليمي يجمع تركيا والسعودية والإمارات ومصر، ويتم فيه تقليص الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة واليمن بإسقاط سوريا.
أيضاً، تحتاج إيران إلى الاعتراف بدورها الإقليمي الكبير لمواجهة تهديدات الدور الإقليمي التركي، بعدما وصلت رسالة الرئيس التركي إليها بعد فوزه في الانتخابات ووصوله إلى أذربيجان، كأول دولة يزورها بعد الانتخابات، وهي رسالة مزدوجة الأبعاد لكلٍّ من روسيا وإيران، بمطالبته بفتح الطريق إلى أذربيجان عبر أرمينيا، وما يعنيه ذلك من السيطرة على منطقة القوقاز وقطع الطريق البري بين روسيا وإيران، إضافة إلى استمرار طموحاته بتقسيم إيران، باستغلاله العامل القومي الطوراني في أذربيجان الإيرانية.
قد تكون دمشق هي الأكثر رغبةً في هذه المعركة، وهي التي تشهد انهيارات اقتصادية غير مسبوقة، سواء بفعل تشديد العقوبات على سوريي الداخل أو لأسباب بنيوية داخلية غير قادرة على تحويل التهديدات إلى فرص، وتشكل إعادة سيطرتها على منطقة الجزيرة السورية متنفساً اقتصادياً مهماً بعودة حقول النفط والغاز وتحقيقها الأمن الغذائي.
أيضاً، تحتاج طهران إلى حسم المعركة لمراكمة أوراقها في المفاوضات التي يمكن أن تتم متابعتها مع الأميركي، للاعتراف بقوتها وقدرتها ودورها الأساسي في أي حل سياسي مستقبلي، بما يحافظ على البنية السياسية الحالية، إضافة إلى تخفيف العقوبات على سوريا.
هذه الأوراق تتيح لها الفرصة لدفع الأتراك إلى إنهاء احتلالهم مناطق واسعة من الشمال السوري، بإسقاط الذرائع التركية ودفع تركيا إلى المفاوضات انطلاقاً من واقع ضاغط جديد.
كذلك، تحتاج إلى هذه الأوراق الجديدة أيضاً، في مفاوضاتها الأمنية والسياسية مع الدول العربية، بعد جمود الانفتاح العربي على سوريا، وتوقف رهانات تدفق المساعدات الخليجية، إثر رفضها الضغوط العربية على الحل السياسي الذي دفعت به الولايات المتحدة، وفقاً لمبدأ خطوة خطوة لقرار مجلس الأمن الدولي 2254.
يبدو واضحاً من طبيعة الحشود العسكرية الضخمة على ضفتي النهر أننا أمام احتمالات مرجحة لحصول معركة كبرى في شرق نهر الفرات؛ حرب ذات طابع وجودي بشكل أساسي لكلٍّ من دمشق وقوات قسد داخلياً، وبالنسبة إلى إيران إقليمياً، وتشارك فيها روسيا بشكل مباشر، بقيادتها المعركة وبطيرانها، فيما تقدم الولايات المتحدة معداتها العسكرية وأسلحتها لقوات قسد، وسط احتمال كبير لتدحرج المعركة نحو حرب إقليمية في حال تدخل الطيران الأميركي لتأمين غطاء جوي، بما يمكن أن يؤدي إلى صدام روسي أميركي مباشر لا يريده الطرفان حتى الآن.
المصدر : الميادين