استنفارٌ غربي لوقف الدومينو في النيجر: الخوف من فكرة آن أوانها

بقلم محمد سيف الدين ـ مدير عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

لم تأتِ التطورات التي تشهدها النيجر هذه الأيام منفصلةً عن سياق الأحداث في منطقتي غربي أفريقيا ووسطها. سيطرة رئيس المجلس العسكري الجنرال عبد الرحمن تياني على الحكم في البلاد رأتها القوى الغربية، صاحبة النفوذ التاريخي في المنطقة، مؤشراً خطراً جديداً على تراجع قدرتها على تأمين حضورٍ فاعل هناك، وخصوصاً أنها تحدث فيما يشبه تأثير الدومينو الذي يجتاح المنطقة، بعد تحولاتٍ في الحكم وأنساق السياسة الخارجية في بوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، ودول أخرى.

صراعٌ مركب

هذه التغييرات المتدحرجة من دولةٍ إلى أخرى تكتسب مجموعة من المعاني والأبعاد. فهي تنشأ في سياق تفاعلاتٍ داخلية، وآخر مرتبط بالتعاون مع القوى الكبرى في مكافحة الإرهاب وانعدام الاستقرار الأمني، لكنها تجري أيضاً في سياق صراع جغرافيا سياسية وتنافس بشأن الموارد بين تلك القوى من جهة، ونشاط إقليمي تستشعر معه دول أفريقية أخرى متحالفة مع الغرب مخاطر وصول موجة التغيير إليها، بالإضافة إلى ديناميةٍ أفريقيةٍ نشطة متحفزة على أداء دورٍ في النظام الدولي، تم التعبير عنها بصورةٍ واضحة خلال القمة الأفريقية الروسية الأخيرة في سانت بطرسبورغ.

هذه التفاعلات المركبة جعلت الحدث الجديد في النيجر محطة متباينة عن سابقاتها، وذلك نتيجة عدة أسباب، منها أن النيجر تُعَدّ مصدراً أساسياً للمواد الأولية شديدة الأهمية بالنسبة إلى الدول الكبرى، فهي تحتوي على مخزون كبير من اليورانيوم، كان يشكل حتى الآن نسبة 24% من حاجة فرنسا إلى هذه المادة لتشغيل مفاعلاتها النووية.

باريس قللت حجم ما تحصل عليه من يورانيوم النيجر وأهميته، وقالت إنه لا يتجاوز أربعة في المئة من حاجتها، لكن الصحف الفرنسية تمتلئ باستمرار- وخصوصاً منذ الانقلاب في النيجر – بكثير من المعطيات التي تشير إلى أهمية الاعتماد على هذه الدولة في الحصول على اليورانيوم.

عملٌ عسكري محفوفٌ بالمخاطر

الآن، بعد إنشاء المجلس العسكري النيجري أمراً واقعاً في نيامي، وجدت باريس، ومعها القوى الغربية الأخرى، نفسها في قلب ضرورةٍ جديدة، تتمثل بالحاجة إلى عملٍ عسكري يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويوقف التدهور المتمدد لنفوذها في أفريقيا عموماً، وفي منطقة الساحل الغربي خصوصاً.

لكن هذا التدخل يعني الحاجة إلى إرسال قواتٍ وإنفاق موارد، وخوض صراعٍ عسكري في منطقة شديدة التعقيد، ومغايرة من حيث تكوينها الاجتماعي عن الصراع المفتوح بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. فطبيعة المجتمعات الأفريقية تجعل التدخل العسكري دخولاً في مستنقعٍ مفتوح بحدودٍ غير معلومة، وبنتائج غير مضمونة.

لذلك، تريثت الولايات المتحدة أولاً في التعليق بوضوح على الخيارات في مواجهة المجموعة الحاكمة الجديدة في النيجر، لكنها قالت أيضاً إن فرص العودة عن الانقلاب أصبحت ضئيلة، قبل أن تعود وتعلن دعمها للرئيس المحتجز محمد بازوم، وتدعو إلى الإفراج عنه واستعادة النظام الدستوري هناك.

انهمكت القوى الغربية مباشرةً في إجلاء رعاياها، وتقليص طواقم سفاراتها، وإعلان وقف برامج التعاون الاقتصادي والدعم الذي كانت توفره للنيجر، للضغط من أجل عدم استقرار المجموعة العسكرية الجديدة في الحكم. وفي الوقت نفسه، أعلنت أن سحب جنودها من القواعد الموجودة هناك ليس في جدول الأعمال. وهؤلاء الجنود لا يمثلون سوى بضعة آلاف، أكثرهم قوة فرنسية قوامها 1500 جندي، بالإضافة إلى 300 جندي من قوة الاتحاد الأوروبي، وقوة أميركية من 1100 جندي وخبير، وتشغل واحدة من أهم القواعد العسكرية الأميركية في أفريقيا، مخصصة للمقاتلات والمسيرات، وكانت تقدم، إلى جانب مهمّاتها، تدريبات وخدمات أمنية إلى الجيش النيجري.

هذه القوات المتنوعة لا تكفي لمحاربة المجلس العسكري، الذي أعلن الجيش دعمه. هكذا برزت الحاجة إلى البحث عن خيارات لاستعادة نيامي. خيار إرسال مزيد من القوات الغربية سيفتح باباً على المجهول، بينما المراهنة على تحركٍ شعبيٍ لإعادة بازوم لا تبدو واقعية، في ظل مناخٍ داخلي معاكس تم التعبير عنه في الذكرى الـ 63 للاستقلال عن فرنسا، بحيث تظاهر الآلاف تنديداً بالعقوبات الغربية والأفريقية على النيجر.

في هذه الأجواء، تقدمت المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا، “إيكواس”، إلى واجهة المشهد. وبسرعةٍ أعلن مهلة أسبوع واحد من أجل أن يتنحى المجلس العسكري، ويعيد بازوم إلى السلطة.

واجتمع رؤساء أركان دول “إيكواس” في نيجيريا ليضعوا خطةً عملية لتدخلٍ عسكريٍ محتمل في النيجر. تركت المجموعة التدخل خياراً أخيراً، لكن دولها كانت ترسل إشاراتٍ متوترة إلى نيامي. أُولاها قطع نيجيريا، التي تتصدر المشهد الأفريقي المناهض للتحولات المعارضة للنفوذ الغربي، الكهرباء عن النيجر. هذه الأخيرة كانت تعتمد على أبوجا في أغلبية إمدادات الطاقة الكهربائية التي تحتاج إليها. وثانيتها، إعلان السنغال أنها ستشارك في قوة التدخل العسكري ضد نيامي، وهي الدولة التي لطالما شكلت العمود الفقري لقوات التدخل في المنطقة.

المجموعة الاقتصادية في الأساس، ارتدت وجهاً جديداً، وتحولت إلى تحالفٍ عسكري متحفز على خوض المواجهة مع المجلس العسكري النيجري، بينما اكتفت الدول الغربية بإعلانها دعم هذا المسعى، بحيث أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا دعم بلادها القوي لتدخل “إيكواس”، وشاركتها المواقف الغربية الأخرى في التعبير بإلحاح عن ضرورة الإفراج عن بازوم، وإعادته إلى السلطة.

مفوض الشؤون السياسية والأمن في المنظمة الإقليمية عبد الفتاح موسى قال إن الأخيرة لم تتفق على كل عاصر التدخل فحسب، بل حددت أيضاً توقيت شن الهجوم وكيفيته، وحددت الموارد اللازمة له. هذه الموارد ستستفيد على الأرجح من التدفقات المالية التي أوقفتها دول الغرب عن نيامي، والتي يمكن تحويلها إلى دعم التدخل العسكري فيها.

في موازاة ذلك، أرسلت “إيكواس” وفداً برئاسة رئيس نيجيريا السابق عبد السلام أبو بكر إلى نيامي، لكنه عاد وغادر من دون أن يلتقي رئيس المجلس الوطني لحماية البلاد، الجنرال عبد الرحمن تياني، ولا الرئيس المخلوع بازوم.

 تتحدث “إيكواس” عن فرصةٍ تمنحها من خلال الديبلوماسية للمجلس العسكري. فرصةٌ أيدتها ألمانيا، وفضّلتها التصريحات الأميركية، بينما بقي الموقف الفرنسي متطلعاً إلى إجراء يعيد إلى باريس ما فقدته في لحظة. لكن هذه الفرصة لا تبدو مكتفيةً بإعلان تياني نيته إعادة المسار السياسي خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرة ومعقولة.

تتحمس دول المجموعة الاقتصادية للمواجهة مع النيجر، لكن حدود هذه المواجهة تنذر بالتوسع، وقد تؤدي إلى تشظي المنطقة بأسرها، في صراعٍ أفريقي – أفريقي، وخصوصاً مع لحظ موقفي بوركينا فاسو ومالي، اللتين أعلنتا دعم نيامي في أي هجومٍ تتعرض له من جهة، والموقف الروسي الذي أكد أن أي خطوة عسكرية لن تسمح بحل المسألة، بحسب المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، الذي قال إن ذلك لن يؤدي إلى تحسن الوضع، ودعا في الوقت نفسه إلى”العودة سريعاً إلى النظام الدستوري”.

المجلس العسكري، بدوره، لا يبدو أقل حماسةً لمتابعة المسار إلى آخرة. فلقد أعلن أنه سيردّ “على الفور” على أيّ “عدوان أو محاولة عدوان” ضدّ بلاده من جانب الجماعة الاقتصاديّة. فألغى عدة اتفاقيات عسكرية مبرمة مع فرنسا، تتعلّق بصورة خاصة بتمركز الكتيبة الفرنسيّة التي تشارك في محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة. قرارٌ لم تعترف به باريس، التي أكدت أن “سلطات النيجر الشرعية وحدها” مخولة فسخ هذه الاتفاقيات.

الخوف من فكرةٍ آن أوانها

تتكثف الأحداث والمواقف بشأنها، في حين أن انفجار المنطقة سيؤدي إلى تحولها إلى بؤرة حربٍ شديد الشراسة وكارثية الانعكاسات. أطرافها المباشرون دول أفريقية تعاني، في الأساس، مشكلات أمنية وتغلغل المجموعات المتطرفة فيها، وضعفاً شديداً في مستويات التنمية، وتختزن كثيراً من الغضب الشعبي الذي سيشكل وقوداً ووصفة مثالية لانفجارٍ متعدد الأبعاد، منها توسع العنف وانتشار التطرف، إلى جانب انفلات موجات جديدة من الهجرة نحو الجوار، وشمالاً نحو أوروبا مرة جديدة، وخصوصاً أن النيجر كانت تشكل خطاً متقدماً للاتحاد الأوروبي لصد موجات الهجرة.

من جانبه، نشر بازوم مقال رأي في صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، حذّر فيه من “العواقب المدمرة” للانقلاب على العالم ومنطقة الساحل، التي قد تنتقل، وفق رأيه، إلى “نفوذ” روسيا، عبر مجموعة “فاغنر” العسكرية المسلحة، طالباً مساعدة “الحكومة الأميركيّة والمجتمع الدولي بأسره” من أجل العودة إلى السلطة.

طلب بازوم هذا، وتهديد “إيكواس”، دفعا المجلس العسكري إلى طلب تدخل مجموعة “فاغنر” بالفعل، وذلك في أثناء زيارة قام بها الجنرال ساليفو مودي لمالي المجاورة، بحيث تواصل مع قائد من المجموعة الروسية.

تتشكل صورة المواجهة في حشدين كبيرين متحفزين على المواجهة. تقف دول “إيكواس” رأسَ حربة الحشد الأول، الذي تشكل فرنسا والولايات المتحدة وحلفاؤهما عمقه المساند بالموارد، بينما يقف المجلس العسكري والجيش النيجري، وبوركينا فاسو ومالي، ومعها “فاغنر” في الحشد الآخر، ومن خلف هؤلاء تطلعات روسية إلى توسيع تحالفاتها في المنطقة، وموقف صيني مترقب للتغيرات التي ستشهدها موازين القوة في المنطقة.

الاستنفار الغربي، الذي استدعته أحداث النيجر، يعود، في عمقه، إلى شعورٍ يترسخ على نحو مطّردٍ في أن المناخ العام الأفريقي الرافض للأدوار الغربية التقليدية في القارة يتّسع، يوازيه ميلٌ واضحٌ في أكثر من دولة إلى التناغم مع السياسة الروسية هناك، والتي دأبت، من خلال زيارات وزير خارجيتها سيرغي لافروف المتكررة لأفريقيا، على تشجيع القارة السمراء على المطالبة بدورٍ أساسي في النظام الدولي.

تشجيعٌ عبّر عنه بصورةٍ أكثر وضوحاً الرئيس الروسي نفسه، عندما شدد، خلال اجتماعاته بالقادة الأفارقة في سانت بطرسبورغ، على الروابط التاريخية بينهم وبين بلاده، مؤكداً أنهم قوة فعّالة يجب أن تحظى بوزنها العادل في العلاقات الدولية.

صدى هذه الفكرة يتردد في أذهان القادة الجدد لبوركينا فاسو ومالي، والآن النيجر، والذين يطورون رؤىً متناغمة تستنكر التناقض التاريخي بين حيازتهم الثروات والطاقات الكامنة، وبين نقص التنمية في بلدانهم، وحضور الفقر وحشاً يبتلع الاستقرار، سياسياً وأمنياً، من مجتمعاتهم، ويجعلها فريسةً للتطرف والجريمة والاستغلال الأجنبي، ويترك مواطنيهم إمّا قوى عملٍ مهمشة في أوروبا لقاء أجورٍ زهيدة، وإمّا غارقين في أمواج البحر المتوسط.

تعبّرُ هيئة قائد بوركينا فاسو إبراهيم تراوري العسكرية، وكلماته المشحونةِ بالغضب، في المحافل الرسمية الدولية، عن هذه الطاقة الكامنة، والتي تشعرُ الآن بأنها وجدت سياقها الإقليمي، وعضدها الدولي، وهي تتلمس إمكان إحداث تغيير كبير في أحوالها وتحالفاتها ومستقبلها.

هذه الفكرة المنتفضة ليست جديدة على أفريقيا، وأُحبطت عدة مرات سابقاً قبل أن تعود إلى الحياة، لكنها الآن تشعرُ بالقوة، وبأنها فكرةٌ آن أوانها. وهذا، في حد ذاته، معطى قوة كبير. كما أن فهم الغرب عُمقَ هذه الفكرة، وإدراك حامليها قيمةَ اللحظة التاريخية، وقدرتهم على وضع الفكرة في الفعل، أمرٌ يدفع القوى المهيمنة التقليدية في هذا الإقليم إلى إعلان حالة الطوارئ لوقف تدحرج البيادق على رقعة الشطرنج الأفريقية، التي سيكون لها وقعها في تحديد هوية القوى العالمية المهيمنة في العقود المقبلة.

المصدر : الميادين