جدل الفلاسفة الأوروبيين بشأن عواقب كورونا الأخلاقية والسياسية

في ما يشبه البيان الصادر نهاية فبراير/شباط الماضي، قال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين إن إجراءات الطوارئ التي اتخذتها الحكومات في سياق مكافحة تفشي جائحة كورونا غير عقلانية وغير مبررة، مستندا إلى بيان المجلس القومي الإيطالي للبحوث الذي اعتبر أن أعراض الجائحة تكون خفيفة أو معتدلة لأغلب الحالات.

وتساءل أغامبين متعجبا “لماذا تخلق السلطات الحكومية ووسائل الإعلام مناخا من الذعر، يتسبب في حالة استثناء حقيقية تتضمن تقييد الحركة وتعليق الحياة اليومية والعمل في مناطق بأكملها؟”، معتبرا أن تلك الحالة تؤدي لفرض “عسكرة حقيقية” على تلك المناطق، في صيغة وصفها الفيلسوف الإيطالي بـ”الغامضة وغير المحددة”، متنبئا بتعميم حالة الاستثناء على كافة المناطق.

واستعرض أغامبين “القيود الحكومية على الحرية” التي أقرتها السلطات (الإيطالية)، معتبرا أنها غير متناسبة مع التهديد الذي تسببه “عدوى تشبه الإنفلونزا” ولا تختلف عن الفيروسات المعدية التي تصيبنا كل عام.

وختم الفيلسوف الإيطالي بيانه بالقول إن السلطات استنفدت مبرر الإرهاب لاتخاذ تدابير استثنائية، ولهذا فإن “اختراع وباء يمنحها الذريعة المثالية لتعميم إجراءاتها التي تتجاوز كل الحدود”، مشيرا إلى حالة الخوف والفزع الجماعي وما اعتبره “قبولا بتقييد الحكومات للحرية تحت دعاوى السلامة”.

ويشتهر الفيلسوف الإيطالي والمنظر القانوني بكتابه “حالة الاستثناء.. الإنسان الحرام” الذي يعتبر أن السلطات تستخدم الظروف الاستثنائية لتبرير تعطيل القانون وحيازة السلطة المطلقة، مشيرا لتحولها إلى حالة دائمة حتى في النظم الدستورية الديمقراطية.

نقد العولمة
الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك ردّ على مقال أغامبين الأول، معتبرا أن رد فعل الفيلسوف الإيطالي هو نسخة متشددة من الموقف اليساري الشائع للنظر إلى الذعر والهلع كممارسة سلطوية للضبط والمراقبة والعنصرية.

وتساءل جيجيك مستنكرا: هل من مصلحة السلطات وأصحاب رؤوس الأموال إثارة أزمة اقتصادية عالمية لدعم سلطتهم؟ وأجاب على تساؤله بالقول إن الدول مذعورة ومدركة تماما لعجزها عن السيطرة على الوضع، كما أن هذا الذرع يزعزع ثقة المواطنين في الدولة.

وتابع جيجيك في مقاله بالقول إن الحجر الصحي والإجراءات الحكومية بالفعل تحدّ من حريتنا، لكن التهديد بتفشي الجائحة أدى أيضا لأشكال من التضامن المحلي والدولي، بالإضافة إلى أنه عزز الشعور بالحاجة لمراقبة السلطة نفسها و”إثبات أن ما حققته الصين، يمكن تحقيقه بطرق أكثر ديمقراطية وشفافية”، بحسب مقاله “المراقبة والمعاقبة” المنشور في قسم الصالون الفلسفي بعروض كتب لوس أنجلوس.

وقال جيجيك إن إجراءات مواجهة الجائحة لا يجب أن تختزل في النموذج المعتاد للتحكم والمراقبة الذي تبناه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، معتبرا أن اليمين البديل واليسار المزيف يرفضان قبول حقيقة الجائحة على حد سواء، ويقومان بالتنديد بإجراءات مواجهته.

واستنكرا مواقف ترامب وأنصاره الذين يتبنون فكرة المؤامرة، وكذلك إصرار بعض اليساريين على اعتبار إجراءات السلطات تشوبها كراهية للأجانب، وأكد جيجيك أن تجنب المصافحة والاختلاط هو شكل من أشكال التضامن اليوم.

واستشهد الفيلسوف السلوفيني برواية الأديب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو “ديكامورون” التي تروي هروب مجموعة من الشبان والشابات إلى فيلا منعزلة خارج فلورنسا الإيطالية هربا من طاعون فتك بسكان المدينة، مقارنا أحداث الرواية بما يحدث حاليا من هروب الأثرياء بطائراتهم الخاصة إلى جزر صغيرة في الكاريبي، بينما يبقى الناس العاديون تحت تهديد العدوى.

ويواصل جيجيك القول إن جائحة كورونا لا تكشف عجز “عولمة السوق” فحسب، وإنما أيضا عجز الشعبوية القومية، معتبرا أن شعار “أميركا أولاً” انتهى إذ لا يمكن إنقاذ أي بلد إلا من خلال التنسيق والتعاون الدولي الذي يحقق بقاءنا وبقاء الجميع.

ولمح جيجيك لتشابه ما يجري مع تعامل سكان العصور الوسطى مع الطاعون، إذ أنكروا ما يجري (مثلما يجري الآن)، ومن ثم أصبحوا غاضبين على حيواتهم أو على الإله، ثم بدؤوا المساومة والاكتئاب، وحتى العربدة والاستمتاع بالملذات، معتبرا أن الحياة ستستمر وربما تكون هناك آثار جانبية جيدة للجائحة مثل كشف الخواء الروحي وخلو حياتنا من المعنى، ودروس البيئة.

توضيحات أغامبين
غير أن الفيلسوف الإيطالي أغامبين عاد للرد بعد انتشار رد نظيره السلوفيني جيجيك، وقال إن المشكلة ليست في إبداء الرأي حول خطورة المرض وإنما التساؤل عن “العواقب الأخلاقية والسياسية للجائحة”، معتبرا أن المجتمع -بعد موجة الذعر التي شلت البلاد- لم يعد يؤمن بشيء سوى الحياة المجردة.

وأضاف أغامبين -في مقال جديد بعنوان “توضيحات”- أن الإيطاليين أبدوا استعدادا للتضحية بكل شيء بما في ذلك الحياة العادية وعلاقاتهم الاجتماعية والعمل والصداقات والمعتقدات الدينية والسياسية لتلافي خطر الإصابة بعدوى كورونا، وهذا الخطر المشترك لا يوحد الناس (كما أشار جيجيك) وإنما يعميهم ويعزلهم عن بعضهم بعضا؛ إذ ينظر للبشر حاليا على أنهم مصدر عدوى وخطر محتمل لا أكثر، ويجب تجنبهم بأي ثمن.

واستشهد أغامبين برواية الأديب الإيطالي ألساندرو مانزوني الشهيرة “المخطوبون” التي تجري أحداثها في زمن وباء الطاعون الذي ضرب ميلانو عام 1630، وتتعرض لجبن البشر ونفاق الأساقفة، وشجاعة بعض الكهنة، وقوة الحب، معتبرا أن الموتى لم يعد لهم الحق في الجنازة وليس واضحا ما الذي سيجري مع الجثث أيضا.

وتابع أغامبين أن مفهوم الجوار قد تم محوّه، واستغرب من بقاء الكنائس صامتة عن ذلك، وتساءل: كيف ستتحول العلاقات البشرية في مجتمع لا قيمة له غير البقاء؟

وفي توكيد على فكرة كتابه، قال أغامبين إن “حالة الاستثناء” التي عوّدتنا عليها الحكومات مؤقتا، أصبحت حالة طبيعية ودائمة حقا، معتبرا أن البشر اعتادوا العيش في ظروف الأزمات الطويلة والطوارئ، لكن ما يجري حاليا من إعلان طوارئ غير مسبوق على الإطلاق.

وأضاف أن البشر تحولوا إلى حالة “بيولوجية بحتة”، وفقدوا البعدين الاجتماعي والسياسي، وكذلك الأبعاد الإنسانية والعاطفية. 

وقال أغامبين إن المجتمع الذي يعيش في طوارئ دائمة لا يمكن أن يكون حرًا، مؤكدا أن مجتمعنا المعاصر ضحى بالحرية للأسباب الأمنية، وحكم على نفسه بالعيش في خوف دائم، وأضاف أن “أكثر الحروب عبثية هي الحرب مع عدو يقيم في داخلنا لا بالخارج”.

المصدر : الجزيرة