الاندفاعة الإسرائيلية نحو شرق أفريقيا
بقلم صهيب محمود
شكّلت أفريقيا محورًا أساسيًا في السياسة الخارجية لإسرائيل منذ قيامها. وبذل أول رئيس وزراء للكيان ديفيد بن غوريون جهودًا خاصة للحصول على تأييد دولي لإسرائيل في المحافل الدولية لمواجهة المقاومة العربية. وأصبحت لإسرائيل في الستينيات 33 سفارة في العواصم الأفريقية، قبل أن تتعرّض لتراجع كبير بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1973. واشتدّت المقاطعة الأفريقية بسبب المواقف الإسرائيلية الداعمة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بحيث قطعت كل الدول الأفريقية علاقاتها بإسرائيل باستثناء جمهورية مالاوي. وبحلول الألفية الجديدة، ومع التغيرات في الساحتين الإقليمية والدولية، استأنفت إسرائيل علاقاتها مع جُل الدول الأفريقية، وأصبحت تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع 40 دولة، رغم أنها لم تفتح أكثر من 15 سفارة في عموم أفريقيا.
ومع ازدياد منظمات حقوق الإنسان الدولية البارزة التي تصفها بدولة الفصل العنصري، تعمل إسرائيل، من خلال مؤسّساتها الفكرية، على تنشيط العلاقات مع الدول الأفريقية للاستفادة من تأثيرها العددي المحتمل في التصويت في المحافل الدولية. وبهذا الخصوص، عقُدت في نهاية العام الماضي (2022) ندوة مشتركة بين معهد السلام والدراسات الأمنية في جامعة أديس أبابا ومركز القدس للشؤون العامة عن “كيفية إعادة إحياء الشراكة الإسرائيلية – الأفريقية الاستراتيجية”. وتحدّث مدير مركز القدس يخيل ليتر عن سعي إسرائيل إلى المساهمة في “النظام العالمي من خلال معارضتها للدول المعادية ووكلائها، عن طريق جمع المعلومات الاستخباراتية وتبادلها”، كما روّج برنامجا طموحا يهدف إلى المساهمة في النمو الاقتصادي والتنموي في شرق أفريقيا، من خلال توفير التكنولوجيا المتقدّمة في الزراعة والطب والبحث والتطوير للدول الأفريقية.
يعتزم المركز المشار إليه، والذي يهدف، حسب ما أعلنه في موقعه، إلى توسيع اتفاقيات أبراهام، لتشمل القارّة الأفريقية، عقد مؤتمر أوسع في القدس في شهر مارس/ آذار الحالي تشارك فيه 14 دولة عربية وأفريقية ولأول مرة، (بعضها لا علاقات دبلوماسية تجمعها مع إسرائيل مثل الصومال)، لبحث الشراكة الاستراتيجية والأمنية مع إسرائيل وتعزيزها. ويبدو أن إسرائيل تهدف من عقد هذا المؤتمر إلى الرد على الصفعة التي تلقتها من قمّة الاتحاد الأفريقي، أخيرا، طرد ممثلين عنها تسللوا إلى مقرّ الاتحاد من دون توجيه دعوة، وتراهن على تعزيز العلاقات الثنائية مع تلك الدول، على الرغم من الخلافات داخل الاتحاد بشأن منح عضوية مراقب لإسرائيل.
ومع أنه يصعب أن يصل التعاون الإسرائيلي مع أفريقيا إلى حد الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية النوعية في المدى القريب، إلا أن رمزية هذه التحرّكات بالغة الخطورة، كونها تقدّم عن نفسها سردية وصورة جديدة في أفريقيا. ويعود وجه خطورة الموضوع أن الحركة الصهيونية سعت، منذ ظهورها، إلى نسج مقولاتٍ تربط مصير إسرائيل بمصير الأفارقة. وقد اتكأت هذه المزاعم غالبًا على “تشبيه” محرقة الشعب اليهودي على يد النازية بعذابات الأفارقة مع الاستعمار والرق والسلب والنهب الأوروبي، فيما ارتكزت، في مرّات أخرى، وفي أماكن مثل إثيوبيا، على الأساطير التوراتية التي تربط بين الملك سليمان ومملكة سبأ. وعزّزت إسرائيل، تحت هذه الحجج، علاقاتها مع إثيوبيا بفعل وجود الطائفة اليهودية في إثيوبيا أكثر من غيرها في شرق أفريقيا.
في ظل هذا، يتبيّن، بوضوح، أن ثمّة حاجة ملحّة لرد الاعتبار لإرث نضال القارّة ضد الاستعمار والاحتلال لمقاربة الوضع الحالي، وإحياء مواقف الدعم الأفريقي للقضية الفلسطينية والتضامن معها في النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي. وهو الموقف الذي تقوده الجزائر وجنوب أفريقيا في داخل أروقة الاتحاد الأفريقي في رفضهما إعطاء صفة مراقب لإسرائيل في الاتحاد، والتنويه بالمبادرات الشبابية القارّية، مثل مؤتمر الشباب الافارقة من 21 دولة، والذي انعقد في داكار للتأكيد على الموقف التاريخي للقارّة بخصوص فلسطين والعلاقة العضوية مع النضال الفلسطيني. وألقى النائب الجنوب أفريقي زويليفليل مانديلا كلمة افتتاحية فيه، جاء فيها أن الأفارقة والفلسطينيين يشتركان في كفاح مشترك ضد الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري. وقد حرّضت وسائل إعلام موالية لإسرائيل في جنوب أفريقيا ضده، إلا أن المحكمة الدستورية هناك حكمت أن انتقاد إسرائيل لا يعني مهاجمة اليهودية، وأن هناك فرقا واضحا بين اليهودية والصهيونية وبين الشعب اليهودي وممجّدي إسرائيل.
خلاصة الأمر، عادت إسرائيل إلى الساحة الأفريقية بأكثر من وجه. ويتركّز حالياً نشاطها في شرق أفريقيا والذي كان جديده أخيرا التطبيع مع السودان في سياق استراتيجيتها لإيجاد موطئ قدم في الدول المطلّة على النيل والبحر الأحمر، وعلى عقد علاقاتٍ مع الدول الصاعدة اقتصاديًا. فقد أبرمت عدّة اتفاقيات تعاون مع أوغندا وتنزانيا ورواندا وإثيوبيا في مجالات التكنولوجيا والزراعة والأمن والسياحة. كما أن إسرائيل توفّر برنامج تجسّس بيغاسوس لمجموعة “إن إس أو”، وبرنامج “سيركلس” لحكومات قمعية أفريقية لسحق المعارضة وقمع الصحافيين والمعارضة ونشطاء حقوق الإنسان، ولسرقة الانتخابات في بعض البلدان، مثلما حدث في انتخابات غانا سنة 2016، وانتخابات نيجيريا 2019. وهو ما يتطابق في تحالفها مع الأنظمة القمعية العربية في سياق ما بعد الربيع العربي، من حيث التجسّس وقمع المعارضة والصحافة الحرّة.
لكن اللافت، والجديد أيضًا، الخطاب الذي تضطلع به مؤسّسات التفكير الإسرائيلية في تعزيز الوجود الإسرائيلي في القارّة، وتغيير صورتها إلى حليف إنمائي جديد لدول القارّة. ويصف مدير “مركز القدس” عمل مركزه بنموذج لـ”الدبلوماسية التطبيقية”. ويعلق عليه سفير إثيوبيا في إسرائيل أليلغن أدماسو، الذي يصفه بالصديق العزيز، بأنه “Do tank” وليس فقط “Think tank”. يقابل ذلك كله غياب مراكز التفكير العربية عن المشهد، وهو ما يحتّم ضرورة اتخاذ المراكز العربية التي لا تملك معظمها وحدات للدراسات الأفريقية خطواتٍ للاهتمام بهذه المنطقة الجارة والحاسمة، ليس لضرورات الردّ على الدعاية الإسرائيلية فحسب، وإنما أيضا لفتح النقاش حول تشابكات التحرّر الفلسطيني الأفريقي، واستكتشاف تقاطعاته التاريخية والراهنة.
المصدر : العربي الجديد