البحث عن سادات فلسطيني بغطاء عربي

بقلم حسن نافعة ـ أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

لكل شيء بداية ونهاية، بما في ذلك الحروب. وإذا كان بمقدورنا أن نعرف يقيناً متى وكيف بدأت عملية “طوفان الأقصى”، فليس بمقدور أحد أن يحدد بالضبط متى وكيف ستنتهي الحرب المشتعلة حالياً بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية المسلحة بقيادة حماس. صحيح أننا ندرك أن المدافع لا بد أن تصمت يوماً ما، بيد أنه يستحيل على أي شخص أن يحدد على وجه القطع واليقين ما يمكن أن تكون عليه ملامح المنطقة بعد سكوت المدافع، خصوصاً وأن نطاق الحرب المشتعلة حالياً في المنطقة ما زال مرشحاً للاتساع. 

ومع ذلك، فقد بدأت بعض الأوساط الإعلامية ومراكز التفكير في الولايات المتحدة الأميركية تهتم منذ الآن بمرحلة ما بعد الحرب، بل وتتطوع بتقديم نصائح تحث “إسرائيل” على الحذر، وعدم ارتكاب أخطاء تؤدي إلى عرقلة الجهود التي قد تبذل للتوصل إلى سلام حقيقي في المنطقة (راجع على سبيل المثال مقال ديفيد اجناسيوس المنشور في صحيفة الواشنطن بوست يوم 13/10/2023 تحت عنوان: حرب ينبغي أن تدار بعين مصوّبة على ما سيأتي لاحقاً: A war that must be waged with an Eye toward what comes after).

بعض الاجتهادات المطروحة على هذا الصعيد تسترشد بما جرى في الحرب التي اندلعت في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973. ففي بدايتها، حقق الجيشان المصري والسوري انتصارات مذهلة نتيجة لنجاح خطتهما في الخداع الاستراتيجي، لكن “الجيش” الإسرائيلي استطاع أن يصمد، خاصة بعد تلقيه دعماً أميركياً غير محدود، وتمكّن من إنهاء المواجهة المسلحة بطريقة سمحت للجهود الدبلوماسية التي قادها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي آنذاك أن تنطلق لفتح الطريق الذي أفضى في نهاية المطاف إلى إبرام معاهدة سلام بين مصر و”إسرائيل”.

لذا، يرى البعض، ومنهم إجناسيوس، أنه ينبغي لـ “إسرائيل” كبح جماح مشاعرها الانتقامية، وتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة بطريقة قد تؤدي إلى إغلاق الطريق نهائياً أمام الجهود التي ستبذل حتماً بعد توقف القتال. 

صحيح أن وجهة النظر هذه تدعم مساعي “إسرائيل” الرامية إلى القضاء نهائياً على حماس وإخراجها بالتالي من معادلة الصراع، لكنها تطالب “إسرائيل” في الوقت نفسه بإدراك حاجتها الملحّة إلى طرف فلسطيني قادر على صنع السلام معها، ومن ثم، فعليها أن لا تبالغ في ارتكاب أعمال انتقامية ضد الشعب الفلسطيني، إذا أرادت أن تبقي على هذا الباب مفتوحاً.

ولأن محمود عباس، الذي وصل إلى مشارف التسعين، لم يعد قادراً على القيام بهذه المهمة، فمن الطبيعي أن تركز الجهود منذ الآن نحو البحث عن قيادة فلسطينية شابة تحظى بقبول عام وتتمتع بخصائص تؤهلها للقيام بمثل هذا الدور. ولأنه يستحيل على أي قيادة فلسطينية، مهما بلغ حجم التأييد الشعبي لها، أن تتصدى لمهمة التفاوض مع “إسرائيل” عقب توقف القتال ما لم تحظ بغطاء عربي يقدم لها الحماية والمؤازرة، يرى البعض أن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، هو وحده القادر على توفير هذا الغطاء، ويرشحونه بالتالي كي يتولى بنفسه المبادرة بتوجيه الدعوة إلى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للمشاركة في مؤتمر يعقد في الرياض لهذا الغرض بمجرد توقف القتال. 

إذا تبيّن أن هذه القراءة تعكس نمط التفكير الرسمي الأميركي في ما يجب القيام به في مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”، فلن يكون لذلك سوى معنى واحد وهو أن الولايات المتحدة ما تزال تصر على انتهاج سياساتها القديمة نفسها، ومن ثم تعتقد أن الأزمة الراهنة قابلة للاستخدام والتوظيف بالطريقة نفسها التي مكنتها من إجهاض مكتسبات حرب أكتوبر 73، وساعدتها على الانفراد بعملية التسوية في المنطقة. 

بعبارة أخرى، يمكن القول إنه لن يكون من المستبعد في هذه الحالة أن تتحرك دبلوماسية بايدن في المرحلة القادمة على خطين متوازييْن، الأول: يستهدف البحث عن قيادة فلسطينية بديلة لعباس، تؤمن بأن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق الحل، وبأن أي تسوية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لا بد أن تتسق مع استراتيجية الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، والثاني: يستهدف إقناع السعودية بضرورة استئناف عملية التفاوض حول صفقة تسمح بتطبيع العلاقة مع “إسرائيل”. ولأن هذه العملية كانت قد قطعت شوطاً طويلاً قبل إقدام حماس على شن عملية “طوفان الأقصى”، فليس من المستبعد أن تبني إدارة بايدن خططها للمرحلة القادمة على أساس أن جولة الصراع الحالية ستنتهي حتماً باستئصال حماس، ما يعني أن العقبة الرئيسية التي كانت تعترض إبرام هذه الصفقة قد زالت نهائياً. 

كانت السعودية تشترط لتطبيع علاقتها مع “إسرائيل” أن تبرم معها الولايات المتحدة اتفاقية للأمن الجماعي، على غرار الاتفاقية التي تربطها بالدول الأعضاء في حلف “الناتو”، وأن تساعدها على تنفيذ برنامج نووي يسمح بتخصيب اليورانيوم على أراضيها، وأن تقوم “إسرائيل” كذلك باتخاذ إجراءات ملموسة تسمح بإعادة فتح باب الأمل أمام تسوية تبنى على أساس حل الدولتين.

ولأن إدارة بايدن ترى أن عملية “طوفان الأقصى” ستنتهي حتماً بتصفية حماس على الصعيدين السياسي والعسكري، يصبح من المنطقي أن ترسم خططها المستقبلية على أساس أن نتائج الحرب الدائرة حالياً ستؤدي بالضرورة إلى تليين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني، ومن ثم تمهيد الطريق لتمرير هذه الصفقة.

غير أن طريقة التفكير هذه تبدو لي مخادعة ومضللة وغارقة في بحر من الأوهام. فقد أثبتت التجربة التاريخية أن الافتراضات التي بنى عليها الرئيس السادات حساباته كانت جميعها خاطئة.

فقد تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن الولايات المتحدة، حتى بافتراض امتلاكها 99% من أوراق الحل، لم تكن راغبة في أي يوم من الأيام في المساعدة على التوصل إلى أي تسوية لا تقبلها “إسرائيل”، كما تبيّن أن “إسرائيل” لم تكن في أي يوم من الأيام، ولن تكون أبداً راغبة في تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، أو في مساعدته على إقامة دولة مستقلة، ولو على جزء يسير من وطنه التاريخي لا يتجاوز 28%.

فقد أتيحت أمام “إسرائيل” خلال العقود الخمسة السابقة، وحتى من قبل أن تظهر حماس إلى حيّز الوجود، عشرات الفرص للتوصل إلى تسوية تستجيب للحد الأدنى لحقوق الشعب الفلسطيني، لكنها تعمّدت إهدارها جميعاً. 

إحدى تلك الفرص لاحت حين أقدم السادات على زيارة القدس عام 1977، رغم خطورة ما أقدم عليه، لكن بيجين تعمّد إهدارها؛ لأنه لم يكن يرغب أبداً في إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من أرض فلسطين، وأصرّ على الاكتفاء بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في الضفة والقطاع، ما يعني خضوعهم للسيادة الإسرائيلية إلى الأبد.

ثم لاحت أمام “إسرائيل” فرصة أكبر عام 1993، حين قبل عرفات التوقيع على اتفاقية أوسلو، رغم خطورة ما أقدم عليه، لكن اليمين الإسرائيلي لم يكتف بالوقوف بكل قوته ضد هذه الاتفاقية، رغم كل ما تضمنته من تنازلات فلسطينية، لكنه ذهب إلى حد اغتيال إسحق رابين نفسه، ثم لاحت فرصة ثالثة عام 2000، حين أقدم بيل كلينتون على توجيه دعوة إلى كل من عرفات وإيهود باراك للمشاركة في مؤتمر “كامب ديفيد 2″، في محاولة أخيرة منه لإنقاذ اتفاقية أوسلو التي كانت على وشك الانهيار، غير أن “إسرائيل” رفضت من جديد عودة القدس الشرقية إلى السيادة الفلسطينية، كما رفضت عودة اللاجئين إلى ديارهم، بل ورفضت وضع المسجد الأقصى نفسه تحت السيادة الفلسطينية حين أصرت على أن تحتفظ لنفسها بالسيادة “تحت الأرض”. 

عندها، تبيّن بما لا يدع أي مجال للشك أن المجتمع الإسرائيلي نفسه، وليس حكامه أو أحزابه أو نخبته، سواء من انتمى منهم إلى اليمين أو إلى اليسار، ليس ناضجاً لأي تسوية يمكن أن يقبلها أي فلسطيني. 

كان ياسر عرفات هو القيادة الفلسطينية الوحيدة القادرة على تمرير حل وسط يمكن أن يقبله الفلسطينيون، ولو على مضض، لكن “إسرائيل” حاصرته في المقاطعة ثم قتلته بالسم، متصورة أن محمود عباس يمكن أن يقوم بالدور الذي لم يستطع عرفات أن يقوم به. ورغم كل ما قدمه عباس من تنازلات مفرطة، بيد أن “إسرائيل” لم تساعده مطلقاً، وأمعنت في إضعافه لا لشيء إلا لأنها تبحث عن عميل وليس عن شريك.

 لذلك، لا يساورني أي شك في أن الولايات المتحدة ستفشل فشلاً ذريعاً في محاولاتها الرامية إلى البحث عن “سادات فلسطيني” يستطيع القيام بالدور نفسه الذي قام به السادات أيام كيسنجر، حتى لو نجحت، لا قدّر الله، في استئصال حماس، كما لا يساورني أي شك في أنها ستفشل فشلاً ذريعاً أيضاً في محاولاتها الرامية إلى إقناع السعودية بقبول صفقة تتضمن تطبيع العلاقة مع “إسرائيل” في الظروف الراهنة التي ترتكب فيها “إسرائيل” مجازر تفوق قدرة أي إنسان سويّ على الاحتمال، لأن الأخيرة لن تقدم أي تنازلات تسمح بتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على الحد الأدنى من حقوقه التاريخية المشروعة.

إذا كانت عملية “طوفان الأقصى” قد أثبتت شيئاً فهو أن فلسطين لن تتحرر إلا بالقوة المسلحة، وليس بالتفاوض مع حكومة تعتقد أنها تمثل “شعب الله المختار”، وأن فلسطين هي “الأرض الموعودة” لهذا الشعب، كما أثبتت في الوقت نفسه أن “إسرائيل” قابلة للهزيمة، وأنها بالفعل “أوهن من بيت العنكبوت”، حسب التعبير الشهير للسيد حسن نصر لله.

المصدر: الميادين