مهما إختلفت السيناريوهات القضية الفلسطينية لن تبقى في حالتها السابقة
بقلم بيوتر أكوبوف
تثير الحرب التي تشنها “إسرائيل” على الفلسطينيين قلق المجتمع الدولي برمته، بغض النظر عمن يتعاطف مع من، أو مدى بعده عن قطاع غزة. لأننا لا نتعامل فقط مع واحدة (وإن كانت الأقدم) من النقاط الساخنة في العالم، ولكن مع مشكلة يمكن أن تفجر العالم كله. ولا يمكن مقارنة الصراع في أوكرانيا ولا الحرب المحتملة في تايوان بها من حيث تركيز التناقضات وحجم التهديدات.
المستوى الأول: الإسرائيلي – الفلسطيني. رداً على هجوم حركة حماس الفلسطينية، تقصف “إسرائيل” الآن قطاع غزة، بعدما قطعت عنه إمدادات المياه والغاز والكهرباء. وهي تستعد لشن عملية برية بهدف تدمير البنية التحتية والقوة العسكرية لحماس، وتسعى للقضاء على المنظمة في حد ذاتها. ولكن من المستحيل القيام بذلك. إذ لم تعد “حماس”، منذ مدة طويلة، الحكومة الفلسطينية في غزة، بل البنية التنظيمية للفلسطينيين هناك. ويعيش نحو 3 ملايين فلسطيني على هذه القطعة الصغيرة من الأرض، ولكي تتمكن “إسرائيل” من تدمير حماس، يتعين عليها إما أن تسوي غزة بالأرض أو تجبر كل الفلسطينيين على الفرار إلى مصر المجاورة. وكلا الخيارين مستحيل بالفعل، على الرغم من أن غزة تعيش منذ عقود في نظام معسكر اعتقال كبير (محاصر تماماً ومعتمد على إسرائيل)، فإن الفلسطينيين لن يغادروا غزة حتى تحت القصف الشامل.
كما لن تتمكن “إسرائيل” من طردهم بالقوة أو وضع غزة تحت السيطرة العسكرية. إن العملية البرية، إذا بدأت، ستكلف الدولة العبرية خسائر فادحة (في معارك المدن)، والتفوق العسكري الكامل، كما أظهرت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يعد حاسماً للنجاح.
وهكذا، فبينما يهدد رئيس الوزراء نتنياهو الآن حماس بالفظائع ويدعي أنه رداً على ذلك، “سنغير الشرق الأوسط”، فإن فرص التزام “إسرائيل” بغزو عسكري كامل وواسع النطاق وقصير المدى للأراضي الفلسطينية تبدو ضئيلة. ذلك ليس فقط لأن “إسرائيل” لا تملك في الواقع القدرة على تدمير حماس، بل أيضاً لأن العملية العسكرية من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد الصراع. وهذا سوف يتجلى ليس فقط في هجوم على “إسرائيل” من الشمال، من قبل حزب الله اللبناني، ولكن في أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سوف يتحول إلى صراع إسرائيلي عربي. أي إلى الشكل الذي كان عليه في الأصل.
على المستوى الثاني، ربما تحاول إسرائيل، بالطبع، قصف الفلسطينيين وإعادتهم إلى العصر الحجري، لكن آلاف، ثم عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين في غزة سيؤدي إلى انفجار السخط في الشارع العربي في الشرق الأوسط وسيجبر الحكومات على فعل شيء. إذ ستطالب دول المنطقة بتغيير سياساتها ليس فقط تجاه “إسرائيل”، بل أيضاً الولايات المتحدة لتدعوها إلى وقف آلة الحرب الإسرائيلية.
سيتم تدمير جميع الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة لإقامة علاقات بين “إسرائيل” والدول العربية على نحو منفرد. علاوة على ذلك، فإن محاولة تصفية غزة، إلى جانب اندلاع الاشتباكات في القدس والضفة الغربية لنهر الأردن والأعمال العسكرية ضد حزب الله على الأراضي اللبنانية، كلها عناصر ستؤدي إلى تفعيل المستوى الثالث من الصراع، أي الصراع الإسرائيلي الإسلامي.
إن العالم الإسلامي الذي يبلغ تعداده مليار ونصف المليار سيطالب بحماية الفلسطينيين والقدس، المدينة المقدسة بالنسبة إلى جميع المؤمنين. وعند الوصول إلى هذا المستوى الثالث من الصراع، يتزايد خطر إشراك إيران فيه، ليس فقط كقوة إقليمية، بل أيضاً كمنافس على موقع المدافع الرئيس عن الإسلام في جميع أنحاء العالم.
وخلافاً لكل التكهنات، فإن هجوم حماس الحالي لم يكن عملاً استفزازياً من قبل طهران. فنحن نتعامل مع انتفاضة سجناء معسكرات الاعتقال، أي أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه والذين سئموا الإذلال المستمر، والاعتماد في حياتهم على عدو أقوى منهم، ما أوصلهم إلى اليأس.
إيران لا تحتاج إلى حرب مع “إسرائيل” الآن كما أن الأخيرة لا تحتاج إلى حرب مع إيران (على الرغم من وجود مؤيدين للهجوم على إيران في القيادة الإسرائيلية، لكنهم يريدون القيام بذلك بأيد أميركية أخرى. وبالتأكيد واشنطن لن تجرؤ على القيام بذلك). ولكن خطورة المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية تكمن في كونها محفوفة بتطورات لا يمكن السيطرة عليها، نظراً لطبيعتها المتعددة الطبقات.
ففي نهاية المطاف، فإن المستويات الثلاثة المبينة أعلاه لا تحيط بها كلها، على الرغم أنها في حد ذاتها يمكن أن تؤدي، في حال التصعيد، إلى حرب واسعة النطاق بين عدة دول في المنطقة، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية (الإسرائيلية، فالدول الأخرى لا تمتلكها). لكن المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية لا تقتصر على هذه المستويات الثلاثة.
هناك مستوى رابع يتمثل في الصراع بين الشرق والغرب أو الغرب والجنوب العالمي. إن “إسرائيل” ليست كائناً قائماً بذاته، بل هي أيضاً جزء من الغرب، أو على نحو أكثر دقة، طليعته الأنغلوساكسونية. “إسرائيل” ليست دولة عادية، ولكنها في الواقع الولاية الأميركية رقم 51 التي زرعها الغرب في الشرق الأوسط، وهي دولة مميزة. الجميع يدرك أن القتال مع “إسرائيل” هو بمثابة القتال مع الولايات المتحدة. لكن المشكلة تكمن في أن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة قد اهتزت بالفعل (ومن المؤكد أن المؤشر بات سلبياً بالنسبة للولايات المتحدة). وقد اهتزت هيمنة “إسرائيل” في المنطقة، فلم تعد القنبلة الذرية، ولا التفوق التكنولوجي، ولا الدعاية الماهرة قادرة على ضمان أمنها ووجودها على المدى المتوسط.
لأن “إسرائيل” اليوم، بلا خجل ودون عقاب (إذا تحدثنا عن هذه الأداة المفضلة لدى الغرب مثل العقوبات)، تدوس على جميع حقوق الفلسطينيين (تبني دولتها الخاصة على أراضيهم ولا ترغب في منحهم الحق في إنشاء دولة خاصة بهم) لا يمكن أن توجد إلا في عصر الهيمنة الأميركية (وقبل ذلك في عصر المواجهة السوفياتية الأميركية).
وعلى أية حال، فإن هذه الحقبة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولكن يمكن استخدامها لحل المشكلة الفلسطينية. إن إيجاد هذا الحل كان في مصلحة “إسرائيل”، لأنه بهذه الطريقة يمكن أن يمنع ظهور أوقات تُترك فيها وحيدة مع العرب من حولها، أي أنها محكوم عليها بالهلاك. ومع ذلك، فإن “إسرائيل” لم ترغب في الاعتراف بالواقع الناشئ والنظر بصدق إلى آفاقه، ولم تسمح بإنشاء دولة فلسطينية، وهي نفسها لم تكن تريد أن تصبح دولة لشعبين (لم تتخل عن مبدأ دولة قومية يهودية بحتة تضمن المواطنة للفلسطينيين). “إسرائيل” نفسها حكمت على نفسها بالهزيمة في منظور تاريخي قصير الأمد، وحتى الآن تواصل الحديث عن خصومها باعتبارهم “إرهابيين” و”حيوانات على هيئة بشر”، أي أنها ترفض الاعتراف بمسؤوليتها عن عقود من إذلال الشعب الفلسطيني.
وتذكرنا هذه الإهانات أيضاً بالمستوى الخامس والأكثر خطورة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو المستوى الأخروي الماورائي. شكل الصراع حول القدس جوهر تاريخ العالم في التاريخ، والآن تظل المدينة المقدسة في مركز الجدل العالمي. إلا أن الأمر لن يبقى كذلك. فقد دخل العالم مرحلة التحولات الكبرى، وهو تغيير في النظام العالمي بأكمله.
إن مدة نصف الألفية من الهيمنة الغربية تقترب من نهايتها، وتأتي أزمنة وقواعد جديدة وتتشكل. وفي كل الأحوال، فإن القضية الفلسطينية لن تستطيع أن تبقى على حالتها السابقة المعلقة من دون حل، فإما أن تنفجر بحيث لا يهتم بها أحد، أو أنها ستسلك طريقها فعلياً نحو الحل، وتتوقف عن كونها قضية عالمية، مثل صندوق بارود تحت جمر لاهب باستمرار.
المصدر: ريا نفوستي – ترجمة عماد الدين رائف ـ الميادين.