“طوفان الأقصى”… روسيا الحاضرة المترقّبة

بقلم أحمد الدرزي ـ كاتب سوري

خرقت زيارة الرئيس الروسي بوتين أجواء منطقة غرب آسيا الملتهبة بأخطر حرب على مستقبلها، وبتحدٍ واضح للتهديدات الأميركية التي وضعته تحت مقصلة تهديدات محكمة الجنايات الدولية. وقد عاد إلى موسكو والتقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بعد لقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، ما أثار الأسئلة عن فحوى خطواته المتتابعة؟

ما إن استلم الرئيس بوتين رئاسة بلاده المُنهكة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسيطرة المافيا الليبرالية الغربية الانتماء على مفاصل الاقتصاد الروسي، حتى بدأ بإعادة ترتيب البيت الداخلي، بما ينسجم مع واقع البلاد، وبما يعيدها إلى صدارة المشهد الدولي كقوة عظمى لها قرارها الذي يجب أن يُحترم ويؤخذ به.

على الرغم من علاقة روسيا بـ”إسرائيل”، وما تعنيه لها كدولة قائمة في أكثر المناطق حساسيةً بجغرافيتها السياسية، فإنَّ المسار الموازي المقابل لهذه العلاقة يفرض على موسكو أن تقيم سياساتها في منطقة غرب آسيا بما يحقق لها مصالحها الاستراتيجية على مسار عودتها وتعافيها كقوة عظمى.

ظهر المسار الموازي المنسجم مع تاريخ روسيا وطموحها الدائم بالوصول إلى المياه الدافئة في شرق المتوسط كأحد أهم الأهداف التي ينبغي تحقيقها، فعلى الرغم من وجود مليون روسي في “إسرائيل”، فإن هناك في الطرف المقابل لها كتلة سكانية هائلة من المسلمين، لهم توزعهم الجغرافي في آسيا وأفريقيا، ويستطيعون التأثير في الأقلية المسلمة الكبيرة داخل روسيا، والتي تجاوزت نسبتها 18% من مجمل سكان روسيا، وهي عُرضة للتأثير في الداخل الروسي من قبل الولايات المتحدة التي استطاعت في العقود السابقة تجنيد الكثير من الجماعات الإسلامية في أفغانستان وبقية دول العالم.

تُوفر العلاقة الروسية مع حركة حماس أحد الصمامات الأساسية لمنع استغلال الولايات المتحدة للأقلية المسلمة في زعزعة الأمن الروسي والوصول إلى تمزيق روسيا، اعتماداً على رمزية القضية الفلسطينية في وجدان المسلمين، والدور الأساسي لهذه الحركة في المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، كما في حرصها على العلاقة الجيدة مع تركيا التي يمكن أن تؤدي دور صمام الأمان.

بدأت ملامح المسار الروسي الموازي بحدثين مهمين عام 2006؛ الأول في حرب تموز، وعندما استخدم حزب الله صواريخ الكورنيت الروسية في تدمير دبابات الميركافا من الجيل الرابع، التي حصل عليها من سوريا التي أمدته بها من مستودعات الجيش السوري. وقد كان واضحاً الرضا الروسي على هذا الاستخدام بعدم الاعتراض على تسليمها لطرف ثانٍ، بما يعني الموافقة الروسية على هذا التسليم، والأمر الثاني كان باستقبال قادة حركة حماس في موسكو وافتتاح مكتب لها فيها. 

لم يتوقف الأمر عند عام 2006، فقد استمرت العلاقة مع حزب الله وحركة حماس حتى بالجانب التسليحي، بعدما سربت القناة العبرية الأولى عام 2015 تسليم سوريا صواريخ ياخونت البحرية لحزب الله. وقد اتُهمت روسيا بالوقوف وراء هذا العمل، كما أن السلاح الروسي استمر بالتدفق إلى حركة حماس عبر سوريا وإيران.

ظهر موقف روسيا مع انطلاقة ملحمة “طوفان الأقصى” برفضها إدانة حركة حماس واعتبارها حركة تحرر وطنية قامت بعمل طبيعي في مواجهة الاحتلال، مستندةً بذلك إلى ارتفاع مستوى علاقتها الاستراتيجية مع إيران، التي تقود المحور الممتد من غرب أفغانستان إلى شرق المتوسط إلى مضيق باب، وحركة حماس جزء أساسي منه، وقد تكون الأهم في هذه المرحلة، بما قامت به من عمل عسكري أصاب لبّ النظام الغربي، بما يعزز انتصارها عليه في الحرب الأوكرانية.

تدرك روسيا اليوم أن هزيمة المقاومة الفلسطينية ستنعكس عليها سلباً في مواجهة النظام الغربي، فالهزيمة تعني تغيير خرائط منطقة غرب آسيا لمصلحة استمرار نظام هيمنة القطب الأحادي الجانب، فهي أحد المستهدفين الأساسيين في الحرب الأميركية على غزة لاستئصال حركة حماس.

تصريح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يعزز بشكل كبير هذا التصور الروسي، إذ قال: “لن نسمح لحركة حماس وبوتين بالانتصار، ولن نسمح لأعدائنا بتقسيمنا وإضعافنا”. وكان ذلك واضحاً بالربط بين حربي الولايات المتحدة في أوكرانيا وفلسطين المحتلة، عندما أشار إلى أن “الولايات المتحدة ما زالت قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها وإرسال المساعدات إلى العديد من مسارح العمليات العسكرية في وقت واحد، والتي تشمل كلاً من إسرائيل وأوكرانيا”.

من هنا تأتي أهمية زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لموسكو ولقاء نظيره الرئيس بوتين بعد عودته من رحلته إلى الرياض وأبو ظبي، فهي زيارة مختلفة المنحى، ففي الرياض وأبو ظبي، كانت الأولوية للحفاظ على تحالف الطاقة “أوبك +” بعد ظهور الخلافات حول حصة أبو ظبي، التي تسعى لرفع حصتها التسويقية بما يتناسب مع القدرة الإنتاجية المتصاعدة، إضافة إلى أهمية أبو ظبي كمركز مالي عالمي يتيح حرية حركة الأموال الروسية في زمن العقوبات الأميركية.

زيارة الرئيس الإيراني تأتي في إطار التنسيق الكامل بين البلدين في مواجهة الولايات المتحدة خاصةً، والنظام الغربي عامةً، بعد نجاح تحالفهما في الحرب الأوكرانية التي عززت مستوى العلاقات بين البلدين، وأثمرت هزيمة حلف الناتو الذي بدأ بالإقرار بحقائق الواقع على الأرض، وبعد وضوح العجز الأميركي عن إسقاط حركة حماس، ومعها حركة الجهاد الإسلامي، من خلال الجيش الإسرائيلي.

هذا التنسيق الجديد من المفترض أن ينعكس على 3 ملفات أساسية، باستخدام روسيا ثقلها السياسي في مجلس الأمن الدولي، بما يمنع تحقيق أهداف الولايات المتحدة في لبنان، بما يتعلق بالعمل على تطبيق القرار 1701 الذي يستهدف حزب الله، إضافة إلى إفشال التوجه نحو استصدار قرار من مجلس الأمن ضد اليمن بعنوان تهديد الملاحة البحرية، والأمر الثالث يتعلق بحركة حماس وغزة ما بعد الإقرار بهزيمة الجيش الإسرائيلي.

أصبح من الواضح أن السياسات الروسية، على الرغم من تناقض حلفائها في أكثر من ساحة، استطاعت أن تكسب الكثير من ملحمة “طوفان الأقصى” التي تُعتبر المرحلة الثالثة من المواجهة مع الولايات المتحدة بعد الحربين في سوريا وأوكرانيا، وهي بحضورها وترقبها استطاعت أن تُثبِّت وقائع جديدة في مسار ولادة النظام الدولي الجديد الذي يتطلب بناء نظام إقليمي جديد في منطقة غرب آسيا، ما زال الكثير من أطرافه مترددين ومتقلبين في رهاناتهم وحساباتهم السياسية وصراعهم على تحديد الأحجام والأدوار بما لا يتناسب مع ما قدموه من قبل.

المصدر: الميادين