هل الجزائر مع فلسطين؟ وإلى أي مدى؟

الموقف ـ نقوم بإعادة نشر المقال الذي كتبه الدكتور عبد الرزاق مقري على موقعه الشخصي حول موقف الجزائر إزاء القضية الفلسطينية في ظروف العدوان الصهوني على غزة إيمانآ منا بأن نشر الرأي والرأي الآخر يعد واجبآ أخلاقيآ وشرطآ منهجيآ لإثراء النقاشات الضرورية حول المسائل التي تهم الوطن والمواطن بهدف إصلاح ما يجب إصلاحه في السياسة الداخلية والخارجية. وفي زمن أصبحت فيه الكلمة الحرة منبوذة ومحاصرة في “الجزائر الجديدة” نرى من واجبنا الأخلاقي والإعلامي التعريف بهذه المساهمة القيٌمة التي تناولت قضية يجتمع حولها الجزائريون بغض النظر عن إنتماأتهم الإيديولوجية والحزبية الضيقة.

هل الجزائر مع فلسطين؟ وإلى أي مدى؟
بقلم عبد الرزاق مقري


مقدمة قبل البدء:

إن التثمين والمدح للسلطات في الجزائر يضرب أطنابه، يسيطر على الفضائيات والمؤسسات الإعلامية وعبر الذباب الالكتروني وفي بيانات الأحزاب والمنظمات، فلا يجب على السلطات أن تقلق حينما تظهر أصوات معزولة داخل البلد، وسط زخم المثمنين والمدّاحين، فهو صوت لا يكاد يُسمع بين هؤلاء، وفي كل الأحوال سيتولاه الذباب الالكتروني، وسيرد عليه بقسوة الطبّالون.

وخلافا لما يدّعيه الذين يحكمون على الغير “بالذي عليه أنفسهم” فلا يعملون عملا إلا بقصد المنفعة السياسية أو المادية فإن الله يعلم أن موقفنا لا نية فيه سوى محاولة أداء المهمة كاملة أمام الله وبعونه، ثم تسجيل الموقف للتاريخ لكي لا تقول الأجيال المستقبلية أن الجميع كان مقصرا في الضغط الحقيقي على النظام السياسي ليقوم بواجبه كاملا تجاه فلسطين.وكذلك حينما تنجلي معارك طوفان الأقصى، يستطيع المرء أن ينظر إلى وجهه في المرآة فلا يشعر بالندم على ما فات مما كان يمكن القيام به.

(1)

لقد كان موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى مشكورا ضمن ظروف خاصة نشرحها في الجزء الثاني من هذا المقال، ولكن بعد الطوفان لا يوجد شيء مميّز قدمته الجزائر إلى الآن للفلسطينيين في محنتهم الجارية على أرض غزة وكذا في الضفة الغربية، فلا الخطاب الرسمي بالنسبة لغيرها متقدم، ولا حديثا سمعناه من المسؤولين عن الإدانة الواضحة للولايات الأمريكية المتحدة عن تخطيطها ومشاركتها في الجريمة، ولا الجسر الجوي الذي تم التصريح به سابقا ظهر أثناء أيام الهدنة، ولا سُمح للشعب الجزائري أن يُعبر عن غضبه من الصهاينة وحليفهم الأمريكي، وعن تضامنه مع إخوانه المظلومين، كغيره من الشعوب، ولا المواد العينية التي جمعها الهلال الأحمر وبعض الجمعيات وجدت طريقها لمن جُمعت لهم، ولا كان للجزائر دور دبلوماسي مؤثر واضح في حشد القوى الدولية لصالح أشقائنا المظلومين المقهورين، ولا حتى نقْل المرضى والجرحى إلى المستشفيات الجزائرية قائم كما تفعل بعض الدول أخرى. ورغم ذلك ثمة في الأحزاب والشخصيات والإعلاميين والنواب من يكرر و يبالغ في التثمين والمدح والشكر للسلطة المتحكمة، ومن تجرأ من هؤلاء فقال بعد التثمين المكرر “ولكن” اعتُبر مقصرا ومتجاوزا لحدوده.

كما أن القول بأن مصر رفضت مرور المساعدات والمساهمات الجزائرية، قول لا يستر التقصير، فالمساعدات التي تعطلت مساعدات شعبية، والجسر الجوي إنما تضمنُه الدولة، وهل يعقل أن ترفض مصر الحمولات الإغاثية الجزائرية الرسمية، وأين هو إذن وزن دولتنا إن كان المنع المصري حقا؟ وأين هو جزاء الخدمة العظيمة التي قدمتها الجزائر بإرجاعها مصر إلى الاتحاد الافريقي بعد تعليق عضويتها على إثر الانقلاب العسكري الذي قام به ” الجنرال السيسي” على الرئيس الشرعي “الشهيد مرسي” ؟ مع أننا لم نسمع في حقيقة الأمر تصريحا رسميا بخصوص الرفض المصري للمساعدات الجزائرية لأهلنا في غزة.

ولا شك أن ما قامت به نقابتا القضاة والمحامين تحت عنوان “العدالة للشعب الفلسطيني” عمل مهم، في انتظار تجسيد مخرجاته، ولكن هذا جهد المقل، إذ مثل هذه الندوات نُظمت في العديد من الدول، ومنها الدول الغربية المتحالفة مع الكيان الصهيوني، إذ هي مبادرات تقوم بها تحالفات منظمات حقوقية وقانونية كجهات مخولة في أي مكان في العالم وفق القانون الدولي بتقديم الشكوى لمحكمة الجنايات الدولية بخصوص جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ولا تتحمل الدولة التي تتشكل فيها أي تكلفة سياسية أو تبعات قانونية بخصوصها.

ومن أتعس ما سمعنا من أنواع البروباغندا التي بلغت الآفاق، والتي لا أدري من وراءها لإظهار “البطولة” الجزائرية بطرق ساذجة تجعل الأمم تضحك عنا ما يدور من أخبار مزيفة مخجلة في الوسائط الاجتماعية بأن طيارا جزائريا استطاع أن يخادع الجيش الإسرائيلي وينزل بطائرته المحملة بالبضائع في غزة – التي لا يوجد فيها أصلا مطار – وأن بوارجنا اعترضت في عرض البحر سفينة ألمانية محملة بالسلاح متجهة للكيان الصهيوني. لقد كان من المفروض أن يقبض على مروجي هذه الأكاذيب، والغريب في الأمر أن ثمة من المثقفين وأصحاب المكانة من حدثني يستفسر عن هذه الحوادث “العظيمة” التي لم تتحدث عنها وكالات الأنباء ولا سمعنا بها في القنوات الشائعة، والتي لا يقبلها العقل تماما.

وكم كان رد أحد المفكرين الفلسطينيين الكبار ـ كنت في تواصل معه مؤخرا ـ مفحما لشخص من النخب الجزائرية الموالية للسلطة الجزائرية حين تحدث هذا الأخير بكثير من العُجب في مناسبة من المناسبات، عن “الدور المتقدم للدولة الجزائرية في دعم القضية الفلسطينية”، إذ قال له القائد الفلسطيني: قل لي بربك ماذا قدمت الجزائر لأهل غزة وللمقاومة؟ نحن لا نرى شيئا عمليا مميزا، يمكننا أن نشكر الجزائر على عدم انسياقها للتطبيع أما عن دعمها للفلسطينيين أثناء طوفان الأقصى فلا شيء مميز بالنظر لِما يتعرض له أشقاؤهم من ظلم عظيم وما تقوم به المقاومة من دور تاريخي لتحرير فلسطين والأمة كلها. وبالفعل كلام مثل الذي تحدث به ذلك المتحمس الجزائري الواهم لا ينفع في مثل هذه الظروف، فهو إما سذاجة أو خداع.

ومن الخداع الذي ينشر كذلك: “أنتم لا تعرفون، هناك أشياء تقوم بها الجزائر لا تعرفونها” وهذا لعمري جريمة لا تغتفر، كيف يحاول بعض من ليسو لا في العير ولا في النفير تغليط الناس لتخفيف الضغط على النظام السياسي، فقط ليدعموا توجههم المهادن للنظام السياسي، ألا يخشى هؤلاء الله تعالى.

نحن في اتصال مباشر بالعديد من المسؤولين الفلسطينيين، من داخل غزة نفسها، وهم ينادون بأعلى صوت : “أين الجزائر؟” وقبل يوم فقط كنت في اتصال مع أحد كبار المسؤولين من داخل غزة يتوسل أن تستقبل الجزائر بعض الجرحى والمرضى، وإلى حد الآن لا استجابة.

إن المعايير التي يُقيّم بها أداء الجزائر ليست المعايير التي تُحاسَب بها الدول العربية العميلة المطبّعة، ولكن معايير تقييم أداء بلدنا بخصوص دعم القضية الفلسطينية تتعلق بدولة قامت على أساس ثورة تحريرية كبرى وتضحيات جسيمة على نحو ما هي عليه القضية الفلسطينية اليوم.

إن الأمر الذي يحتاج إلى تثمين حقا بخصوص الجزائر هو عدم التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولكن لقصة عدم التطبيع مسار طويل قد شرحته من قبل في بعض المداخلات


(2)

نحن لا ننكر الخصوصية التاريخية للجزائر بخصوص دعمها الكبير لفلسطين منذ القدم، فقد كتبتُ في عام 2013 كتابا بعنوان “الجزائر وفلسطين” بينت فيه مساهمات الجزائريين لنصرة فلسطين منذ مشاركتهم في تحرير المسجد الأقصى مع صلاح الدين الأيوبي ومنحهم هذا القائد الكبير الأوقاف التي لا تزال إلى اليوم باسمهم كجزائريين من مغرب الأمة الإسلامية (حارة المغاربة)،

وعن مشاركة مجاهدين جزائريين في ثورات الفلسطينيين قبل النكبة وفي حرب الثمانية والأربعين، وعن أدوار الحركة الوطنية في عهد الاستعمار، سواء كشخصيات مثل عمر راسم والشيخ السعيد الزاهري، وأبو اليقظان، والفضيل الورتلاني، أو كهيئات ومنظمات، وخصوصا الهيئة العليا لإعانة فلسطين عام 1948 التي شاركت فيها كل الأطياف والتوجهات بقيادة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله. ثم تحدث الكتاب عن انخراط الدولة الجزائرية المستقلة في دعم الكفاح الفلسطيني مباشرة بعد الاستقلال، سواء من حيث المشاركة في حرب عام 1967 أو في الموقف والإسهام المتميز عام 1973 أو من حيث دعم حركة التحرير الفلسطينية بالسلاح (فتح) عند تأسيسها، وسياسيا ودبلوماسيا، وكيف كانت القوى المعارضة للنظام السياسي الناشئ هي كذلك مساندة لفلسطين، وضربتُ مثلا بمحمد خيضر ومحمد بودية رحمهما الله، ثم كيف تحولت قضية فلسطين إلى قضية مبدئية مركزية عند كل الجزائريين رمَز لها الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله بقوله ” الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، وخصصتُ فصلا من الكتاب لمساهمتنا نحن كأشخاص وباسم حركة مجتمع السلم في نصرة القضية من المساهمات المالية التي ألزمت بها الحركة المناضلين وعائلاتهم سنويا منذ التأسيس، إلى غزوتنا في أسطول الحرية، والتنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع، والجبهة الشعبية لنصرة المقاومة والقضية الفلسطينية، ومؤسسة القدس، إلى حملات كسر الحصار المتتالية وغير ذلك.

فتاريخ الجزائر في المساهمة الجادة والفاعلة في نصرة القضية الفلسطينية، معروف لدينا، و لا تحتاج تلك المساهمات إلى تبيان لنصاعتها ووضوحها، لا يحتاج الأمر منا أن نبرر أنفسنا في القناعة بها. غير أن ثمة تحولات في الموضوع وقعت في فترة التسعينيات أخذت تدفع بالجزائر إلى الاتجاه المعاكس، بل بدأت جهات نافذة في المجتمع والدولة تسعى خفية تارة وعلانية تارة لجر بلدنا إلى التطبيع مع الكيان.

لقد كان الضعف الذي آلت إليه الجزائر منذ الأزمة الاقتصادية في منتصف الثمانينات، ثم الصراع السياسي والفتنة الدموية التي وقعنا فيها طيلة التسعينيات هي البيئة التي صنعت التراجع في القضية الفلسطينية، تماما مثلما وقع التراجع في مجال الحريات وفي آمال تحسين المعيشة وظروف الحياة مع تسارع واشتداد الأزمة.

وحينما جاء بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 كانت الجزائر تبحث عن ذاتها ولملمة جراحها وكان مطلب المصالحة الوطنية هو المطلب الذي ضحى من أجله الجميع وتنازل لتحقيقه الأحزاب والساسة الوطنيون عن طموحاتهم السياسية في قيادة وتطوير البلد، وتنازل المواطنون عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. وصاحب تلك الظروف في بلادنا حدوث موجة تطبيعية كبيرة في الوطن العربي، كان نصيب الجزائر منها بين 1999 و 2000 المصافحة المشؤومة بين بوتفليقة وإيهود باراك، ومحاولة دعوة أنريكو ماسياس الصهيوني للجزائر، وزيارة الوفد الصحفي الجزائري لدولة الكيان.

غير أن انتفاضة الأقصى في فلسطين في سبتمبر 2000 على إثر دخول المجرم أرئيل شارون باحات المسجد الأقصى أفسدت الحسابات في كل العالم العربي. وفي الجزائر عطل مسيرة التطبيع – قبل انتفاضة الأقصى وبعدها – حركة المجتمع ضد التطبيع من خلال تنسيقية مناهضة التطبيع التي جمعت شخصيات وطنية مجتمعية وسياسية مهمة بعضها شارك في الحروب ضد الاحتلال الصهيوني، وكذلك الوثبة الجزائرية ضد المصافحة والوفد الصحفي، والتي كان من أبطالها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله الذي حمّل مسؤولية الاختراق التطبيعي الإعلامي السلطات الرسمية آنذاك ووجه لهم نقدا لاذعا، وقد شرفني الله أن كنت عضوا مؤسسا للتنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع آنذاك.

وبعد تلك المحاولات التطبيعية الفاشلة بقي صوت الجزائر خافتا بخصوص القضية وساءت العلاقة بمنظمة التحرير ورئيسها محمود عباس الذي تنكر للمساهمات السابقة للجزائر بسبب ارتمائه كلية في الجانب المصري تحت الإرادة الأمريكية. وقد كان عبد الحميد مهري يبين لنا في العديد من لقاأتنا في الفرع الجزائري لمؤسسة القدس الدولية بأن الولايات الأمريكية المتحدة تطلب من الجزائر أن تنأى بنفسها عن الملف الفلسطيني وتتركه كلية للمصريين، مؤكدا بأنه لا يمكن أن تتوقع أمريكا والدول الغربية أن تذهب الجزائر إلى التطبيع في تلك المرحلة بسبب أن الدولة الجزائرية أسستها حرب تحريرية ضد الاحتلال وأن الروح التحررية في الدولة والمجتمع لا تزال قوية ولا يتحمل الأمر خطوات تطبيعية حاسمة، لا سيما بعد فشل المحاولة المشار إليها أعلاه، وبقي الحد المطلوب من الجزائر أمريكيا هو عدم التدخل في الملف فحسب، وذلك الذي كان.

ولكن مع مرور الزمن بدأت الرياح التطبيعية الكريهة تنبعث من داخل الدولة، وقد سمعت بنفسي مسؤولين كبارا في أواخر عهد بوتفليقة يتحدثون بكل جرأة عن رفضهم أن تبقى الجزائر تضحي بمصالحها من أجل فلسطين (!)، زاعمين بأنه لا يمكن أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. ولكن برحمة الله بهذا البلد الطيب جاء الحراك الشعبي فكنس كل تلك الأصوات، فغادر الحكمَ بعضُهم، وبقي بعض آخر يكْمُن ينتظر فرصا أخرى.

وحينما حَلّت موجةٌ تطبيعية جديدة قادتها دولة الإمارات حطت رحالَها في جوارنا بالمغرب، فكان التطبيع المغربي وتحالف المخزن مع الصهاينة سياسيا وعسكريا وأمنيا بمثابة قوة كاسحة أبعدت الجزائر عن التطبيع، مدعَّمة بالقوى الوطنية الجزائرية في الدولة والمجتمع التي لا تزال ذات تأثير كبير ضد التطبيع. وفي هذا السياق جاءت مبادرة المصالحة الوطنية التي تُوجت ب”إعلان الجزائر” خدمة للقضية الفلسطينية كدافع أصيل ولكن كذلك كمشروع سياسي يواجه التحالف المغربي الصهيوني، فإلى أي مآل ذهبت المبادرة؟


(3)

لم تكن مبادرة لم شمل الفلسطينيين مستغربة من الجزائر، فهي البلد التي اجتمعت فيها كل الفصائل عام 1988 لإعلان قيام الدولة الفلسطينية، كما أن إطلاقها مشروع المصالحة الفلسطينية بعد العملية التطبيعية المغربية الآثمة تصرف سياسي ذكي، غير أن ظروفا أخرى شجعت على المضي فيها، ومنها التطورات الدولية التي باتت تسير نحو التعددية القطبية والتي خفّت فيها قبضة الولايات الأمريكية المتحدة عن المنطقة،

علاوة على أن الأمريكيين نظروا إلى المبادرة الجزائرية كفرصة لجر حماس وفصائل المقاومة إلى الاعتراف بالشرعية الدولية بحكم العلاقة الطيبة مع الجزائر وفشل مصر والدول الأخرى في ذلك من قبل. فلعل حماس تصبح، من خلال مبادرة الجزائر، عضوا في منظمة التحرير بعد أن تعترف بإسرائيل، والغريب في الأمر أن ثمة في الجزائر من اعتقد بأن حماس لن يكون لها مشكل مع قبول الشرعية الدولية، دون – ربما – الفهم بأن معنى الاعتراف بالشرعية الدولية هو الاعتراف بالكيان الصهيوني وتسليم سلاح المقاومة للسلطة الفلسطينية.

ولما تأكد للأمريكان بأن فصائل المقاومة لم تقبل الإمضاء في “إعلان الجزائر” على الاعتراف بالشرعية الدولية بات الإعلان بالنسبة لهم في خبر كان، وأصبح فعلا ماضيا ناقصا لا وزن له عند الفلسطينيين في حركة فتح ومنظمة التحرير بقيادة عباس بالرغم من أنهم أمضوا عليه (لا لشيء إلا ليحفظوا ماء الوجه للجزائريين)، كما لم يصبح للمشروع قيمة عند الدول العربية المطبعة وعلى رأسها مصر. ثم في الأخير سقطت أهمية الإعلان عند الجزائريين أنفسهم إذ لم يسعوا لتثمينه بمناسبة التطورات الحاصلة، بالرغم من أن هذا المشروع هو الأقدر على وضع تصور عادل للقضية الفلسطينية بعد الحرب القائمة بإرادة الفلسطينيين وحدهم.

كان بإمكان “إعلان الجزائر”، بالصيغة التي تم الإمضاء عليه من قبل حماس وفتح وكل الفصائل الفلسطينية، أن يحرج الإسرائيليين وليس الفلسطينيين، وذلك بأن يناقش الفلسطينيون داخل منظمة التحرير بعد أن تلتحق بها حماس والجهاد استراتيجية التحرير بما يرونه مناسبا وصالحا لقضيتهم، وفي هذا الإطار لن يكون لفصائل المقاومة ـ وفق ما سمعناه منهم ـ مشكلة في أن ينخرطوا في المشاركة السياسية وإدارة القطاع والضفة والقدس الشرقية ديمقراطيا إذا انسحب منها الإسرائيليون وفق ما يسمى ب”حل الدولتين”، ولكن دون أن يُجبَروا على الاعتراف بإسرائيل وتسليم سلاح المقاومة، وربما يتم الاتفاق على هدنة ما مع الكيان في هذا الإطار.

إن الإحراج السياسي الذي يسببه مشروعٌ مثل هذا للإسرائليين يتمثل في أن هذا الخيار يستحيل الوقوع عمليا، وذلك لأن اليهود المحتلين لا يؤمنون به ولا يقبلونه وقد فعلوا عبر السنوات كل ما يجعله مستحيلا، فهم يريدون مزيدا من التوسع وليس الانسحاب من أي بقعة من فلسطين المحتلة، ولو لا طوفان الأقصى لكان العرب ذاتهم قد تركوا مبادرة حل الدولتين نهائيا، وكان يكون التَّرك نهائيا بالدوس عليه بأرجل السعوديين الذين كانوا يستعدون للتطبيع والاعتراف بالكيان دون اشتراط حل الدولتين بالرغم من أنهم هم أصحاب المبادرة كما هو معلوم، ولو لا الحادثة البطولية يوم السابع من أكتوبر لكان الأمر قد تم.

كان من المفروض أن تمضي الجزائر في مبادرتها لدعم القضية الفلسطينية، وأن تستعين بتركيا في ذلك إذ في مقاربة هذه الأخيرة نقاط مشتركة مع مبادرة بلدنا، وربما كنا نجد مساحة مشتركة مع قطر وإيران، بدل المشاريع الجارية التي تُطبخ بين أمريكا وبعض الدول العربية، بغرض إحراج المقاومة سياسيا حتى وإن انتصرت عسكريا . وقد يكون هذا الإحراج الذي يمكن أن تصنعه الجزائر للصهاينة ومن والاهم بمبادرتها هو من مسرّعات التحرير، الذي أخذ طريقه بعد طوفان الأقصى إلى أن يتحقق قريبا بإذن الله تعالى. ولكن هل لقادتنا القوة والشجاعة والرؤية لكي ندخل في هذا المسار التاريخي الكبير؟

لقد كان بالإمكان أن يكون هذا الإعلان، منذ أن تم تخريبه من طرف السلطة الفلسطينية ومن وراءها، فرصة للجزائر لدعم المقاومة بكل الوسائل، بكل مصداقية دون أن يلومها أحد، انتقاما لشرف بلدنا الذي لم يقدره عباس ومن معه، كما أن إعلان الجزائر صار يمثل إطارا مناسبا لجميع الأطراف لو وجد قوة اقليمية أو دولية تسنده. ولكن يبدو بوضوح أن أمريكا والدول العربية لا تريد هذا الإعلان ولا شك أن التقارب الجزائري الأمريكي الحاصل لا يساعد على أن يكون للجزائر عبر الإعلان المسمى باسمها دور تستفيد منه حركة حماس وفصائل المقاومة.

إن ما يفسر التقارب الجزائري الامريكي – الذي منطقيا لا يكون لصالح حماس – تحولات عديدة منها خيبة الأمل في عدم دخول منظمة البريكس، والغضب من روسيا التي لم تكتف بعدم الدفاع عن الجزائر بل صرح وزير خارجيتها لافروف بكلام منقصٍ لقيمة الجزائر عند ذكره معايير اختيار الدول التي تم ضمها للبريكس، وقد ساعدت الولايات الأمريكية المتحدة الجزائر على التقارب من خلال خطوات علنية لصالح ملف الصحراء الغربية، وذلك بعد ما تم التلاعب بالمخزن المغربي وتحقيق الأهداف المسطرة بشأنه، وفي ظل تعمق أزمات هذا البلد الاقتصادية والسياسية، فلم يعد بلدا ذا سيادية يحتاج من ورطوه في التطبيع (على أساس وعد كاذب) أن يخشوا من رد فعل منه لا يخدم مصالحهم.

ومما يبين أن البعد السياسي كان حاضرا في مبادرة لم الشمل الفلسطيني أن الجزائر لم تهتم بحركة حماس التي شرّفت الجزائر في هذا الموضوع وبقيت ملتزمة بالاتفاق، فلم يُقدم لها إلى الآن أيُّ دعم خاص بها، لا سياسي ولا مالي ولا عسكري، وبقي الموقف الجزائري الرسمي أقرب لحركة فتح ولصالح منظمة التحرير التي ليست حماس عضوا فيها، وذلك رغم الفتور في العلاقة بين الجزائر وعباس الذي ربما سيعود إلى ما كان عليه في زمن بوتفليقة.

إنه لا شك أن الجزائر تراعي علاقاتها مع الولايات الأمريكية المتحدة في الشأن الفلسطيني كغيرها من الدول العربية، وأن قطار التطبيع، إن كان منطلقا دون توقف، فإن الجزائر – بالنسبة لأمريكا – ستكون محطته الأخيرة للأسباب التي شرحها لنا الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله. ولكن بالإضافة إلى ذلك، ثمة حرج عند حكامنا من الاتجاه الأيديولوجي لحركة حماس وانتمائها الإسلامي السياسي، وذلك من أعقد العقد عند الأنظمة العربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية إذ ترى في نجاح حركة حماس الفلسطينية نجاحا للمنافس الإسلامي العنيد في بلدانهم، وربما هو نجاح كذلك لحركة حماس الجزائرية بالنسبة للنظام الجزائري. ولا تدرك هذه الأنظمة الغافلة أن تحرير فلسطين، بغض النظر من الذي سيسهم بفاعلية فيه، هو تحرير للعالم العربي والإسلامي كله، وأن المقاومة الفلسطينية تجاوزت الصراعات السياسية والأيديولوجية القائمة في بلداننا، وأنها أصبحت ظاهرة عالمية، خصوصا بعد طوفان الأقصى، ظاهرة تشمل كل الانتماأت الأيديولوجية والعرقية والدينية والمذهبية والجغرافية.

لعل ذلك الحرج السياسي هو ما يفسر عدم التفوه باسم حماس الفلسطينية من قبل السيد رئيس الجمهورية حين قال في كلمته التي رحبنا بها جميعا “الفلسطينيون ليسو إرهابيين”، علما بأن الفلسطينيين ليسو متهمين جميعهم من قبل الدول الغربية، وإنما المتهم هو حركة حماس أساسا، والغريب أنه في الوقت الذي لا يستطيع فيه حكامنا التفوه بكلمة “حماس” الفلسطينية نجد أن رؤساء دول وساسة وشخصيات في دول أخرى مطبعة نفوا عن حركة “حماس” بذاتها تهمة الإرهاب.

والخلاصة أن الموقف الجزائري من حيث رفض التطبيع موقف متقدم بالنسبة لكثير من الدول العربية والإسلامية الأخرى، وذلك للأسباب التي ذكرناها من قبل، والتي بينها الأستاذ مهري كما كررناه أعلاه، ولكن النظام الجزائري متأخر وليس متقدما على غيره الآن، بالنسبة لكثير من الدول في العالم، وأنه لا شيء مميز قدمته السلطات الرسمية للمقاومة وللتضامن مع أهلنا في غزة إلى حد الساعة. لا شك أن ثمة مجهودات كبيرة تقوم بها بعض المؤسسات والمنظمات غير الحكومية الجزائرية، وكل ما تقوم به هذه الهيئات التي رفعت العلم الجزائري في غزة مبارك يشرف أصحابها ويدخل في رصيد الجزائر كلها، بل يرفع شيئا من الحرج عن السلطات ذاتها. غير أن الحجم العظيم للمعاناة التي يعيشها أشقاؤنا المظلومون المشردون في أرضهم في غزة، والمستوى التاريخي والمصيري للتحدي الذي تواجهه المقاومة الفلسطينية لا يستطيع إيفاء حقه سوى الدول بمواقفها الواضحة وإمكاناتها الحكومية الكبيرة، وعليه إن مسؤولية تصحيح الموقف والدور الرسمي الجزائري مسؤولية تاريخية أمام الله وأمام التاريخ.

ثم إن مما يجب الاهتمام به في الأخير بعد نهاية الحرب هو الدعوة الدائمة لليقظة لملاحقة أي تصرف تطبيعي يصدر من أي جهة رسمية أو مجتمعية، ومنها الاختراقات التطبيعية التي نراها أحيانا على مستوى الرياضة أو التجارة أو غير ذلك، أو أي تصرف فيه غموض ويمثل خطرا على القضية الفلسطينية كالموقف المرفوض سياسيا وأخلاقيا الذي قام به وزير الشؤون الدينية بزيارته عميد مسجد باريس الذي ناصر الإسرائيليين علانية في وسائل الإعلام الفرنسية في حديثه عن طوفان الأقصى، دون مراعاة للدماء الغزيرة لأشقائنا في غزة، مما يدل بأن موجات التطبيع في الجزائر ممكنة الوقوع كما حدثت من قبل، وكما كان يمكن أن يحدث عن طريق المتسللين داخل مؤسسات الدولة وفي المجتمع لو لا طوفان الأقصى الذي كسّر موجتها الأخيرة في كل العالم العربي.

فالحذر الحذر من نخب متطرفة مبغضة لهويتنا وانتمائنا ومقدساتنا، ومن اللوبيات الفرنسية والغربية، أو ربما من يهود وماسونيين استطاعوا أن يتوصلوا إلى مواقع نفوذ في بلادنا، أو خضوعا لضغوطات خارجية، أو بسبب الطموحات الشخصية. وتمنينا لو أن السلطات سمحت بمرور قانون تجريم التطبيع في البرلمان لتطمئننا بأن هذه المرحلة آمنة بهذا الشأن ولتأمين المراحل المقبلة في المستقبل كما فعلت دول أخرى غير مطبعة، ولكن حكامنا رفضوا ذلك مما يجعل اليقظة مطلوبة أكثر.

وصدق الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال في الحديث الصحيح الذي ورد في الصحيحين: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني”.

المصدر: مقري.نت