عملية “الوعد الصادق” الإيرانية.. الانتقال من الصبر الاستراتيجي إلى الفعل التكتيكي!!

بقلم أحمد عبد الرحمن

ما جرى ويمكن أن يجري خلال الساعات أو الأيام المقبلة سيبقى ضمن قواعد الاشتباك نفسها المعمول بها سابقاً، ولن يخرج في أفضل الأحوال عن الخطوط الحمر التي أعادت إيران رسمها من جديد بهجومها الواسع على المواقع الإسرائيلية.

بعيداً عن حجم الأضرار التي لحقت بالعديد من المواقع والقواعد الإسرائيلية من جراء الضربة الصاروخية الإيرانية، وبغض النظر عن مدى تأثير ذلك على القدرات العسكرية لـ “جيش” الاحتلال، فإن اتخاذ قرار بهذا الحجم من قِبل القيادة الإيرانية يعتبر تطوّراً هاماً وحاسماً لناحية تحديد شكل المواجهة المقبلة بين العدوين اللدودين.

فإيران التي اعتمدت خلال السنوات الماضية استراتيجية الصبر الاستراتيجي في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ولا سيما فيما يتعلّق بردّها على اغتيال العشرات من العلماء الإيرانيين في قلب طهران، وعلى رأسهم الأب الروحي للبرنامج النووي “محسن فخري زاده”، أو فيما يخصّ استهداف بعض مواقعها في سوريا والعراق، إضافة إلى الهجمات السيبرانية المتعدّدة، بدأت في انتهاج سياسة جديدة بدت في بعض الأوقات بأنها غير ممكنة، نتيجة الكثير من الحسابات المعقّدة.

إذ انتقلت إيران من سياسة الصبر طويل الأمد إلى خيار الردود الموضعية المحسوبة بدقة بالغة، وهو ما يشير إلى رغبة إيرانية في عدم إشعار الخصم بأن خياراتها محدودة، وأن الحفاظ على مشروعها الكبير في المنطقة الهادف إلى محاصرة كيان العدو من كلّ الجوانب، يمكن أن يكبّل يديها، ويجعلها تقف عاجزة عن الرد على العدوان، أو الثأر لدماء شهدائها الذين يسقطون في كثير من الساحات في مواجهة محور الشر بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وتابعيها من الدول التي كانت عظمى في وقت ما.

يمكن النظر إلى الخطوة الإيرانية باستهداف عمق “الدولة” العبرية بصواريخ ومسيّرات مقبلة من قلب الأراضي الإيرانية، في إطار ردّها على جريمة استهداف قنصليتها في العاصمة السورية دمشق، واستشهاد سبعة من قادة الحرس الثوري الإيراني، بأنها شبيهة تماماً بتلك التي حدثت بعد اغتيال الطائرات الأميركية للفريق قاسم سليماني، قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني قبل أربعة أعوام ونصف العام تقريباً قرب مطار بغداد الدولي، والتي اعتبرت في حينه تجاوزاً لكل الخطوط الحمر المعهودة، وكسراً لكثير من قواعد الاشتباك بين الجانبين الأميركي والإيراني.

بعد إقدام “جيش” العدو الإسرائيلي على تنفيذ جريمة القنصلية الإيرانية، والتي تمّ النظر إليها بأنها تكسر العديد من قواعد الاشتباك، وتتجاوز بصورة فجّة خطوطاً حمراً تمّ الالتزام بها طوال أعوام خلت، وقع الكثير من المختصين سواء بحسن نيّة أو بغيرها في فخّ الحسابات المبنية على معطيات غير واقعية، بحيث ذهب الكثيرون منهم وما زالوا إلى الترويج لفكرة استيعاب إيران للهجوم الدامي على أراضٍ ذات سيادة إيرانية بحسب اتفاقية فيينا، وإلى ابتلاع الجمهورية الإسلامية لمرارة ذلك الاستهداف، ومحاولة التقليل من تأثيراته.

هذا خوفاً من تداعيات محتملة في حال قرّرت الردّ، ولعدم تمكين الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو من جرّ المنطقة كلّها إلى مواجهة واسعة تشارك فيها القوات الأميركية بشكل مباشر، وهو ما يحقّق للإسرائيليين غاية لطالما تمنّوا حدوثها، وهي التخلّص من العدو الإيراني وباقي قوى المقاومة في المنطقة، بمساعدة من الأميركيين والجيوش الحليفة لهم، بعد أن عجزت “دولة” الكيان عن القيام بهذا الأمر طوال السنوات الماضية.

إلّا أنّ ما حدث فجر الاثنين من قصف إيراني واسع للعديد من القواعد الجوية العسكرية الإسرائيلية، والتي جاءت على رأسها قاعدة “نفاطيم” في النقب المحتل، حيث انطلقت من هناك الطائرات الحربية التي شاركت في الهجوم على مبنى القنصلية الإيرانية، وتوجد فيها أيضا طائرة رئاسة الوزراء الصهيونية، قد قلب المشهد رأساً على عقب، وأعاد بشكل كبير ترتيب أوراق المواجهة بين محور المقاومة ومحور الشر إلى نمطها السابق، والذي وإن لم يحدث ردّ فعل إسرائيلي واسع على الهجوم الإيراني فإنه سيعود إلى سابق عهده خلال الفترة الماضية، وهو الأمر الذي سيحبط المخططات الإسرائيلية بإشعال المنطقة، ويُسقط مكائد نتنياهو ومجلس حربه التي تسعى للخروج من وحل غزة باتجاه حرب إقليمية تحرق الأخضر واليابس.

تجدر الإشارة هنا إلى أن قاعدة “نفاطيم” والتي تُسمّى أيضاً بقاعدة القوات الجوية 28، تعتبر من أهم القواعد الجوية في الكيان الصهيوني، وهي تُصنّف بأنها مطار عسكري إسرائيلي ودولي أيضاً، إذ تقع القاعدة في مدينة بئر السبع المحتلة، وفيها أسراب من طائرات “أف 35″، وتبعد عن قطاع غزة ما يقارب 70 كلم.

وما يكسب قاعدة “نفاطيم” أهمية كبيرة هو احتواؤها على مقر القيادة الجوية الاستراتيجية لسلاح الجو الإسرائيلي المقام تحت الأرض، ويُعتقد على نطاق واسع أن طائرات الـ “أف16” الموجودة داخل القاعدة قد شاركت في قصف المفاعل النووي العراقي “تموز” في العام 1981، وتشارك باستمرار في عمليات القصف الواسعة التي تستهدف قطاع غزة خلال السنوات الماضية، وخصوصاً في معركة “طوفان الأقصى” المستمرّة منذ أكثر من ستة أشهر.

ولكن لماذا لجأت الجمهورية الإسلامية في إيران، ومعها كلّ حلفائها في المنطقة إلى خيار الرد المباشر والحاسم، ولماذا لم تختر الحفاظ على هدوئها وصبرها طويل المدى كما جرت العادة، وهو الأمر الذي جنّبها كما يقول بعض الكارهين تداعيات كارثية كان يمكن أن تلحق بها من جرّاء المواجهة مع أعدائها، وفي المقدمة منهم العدوّان الإسرائيلي والأميركي؟

في الحقيقة يمكن النظر إلى ردّة الفعل الإيرانية التي شكّك في جدواها الكثير من وسائل الإعلام التي تُصاغ نشرات الأخبار فيها في مكاتب وزارة الخارجية الأميركية من كثير من الجوانب، يأتي في مقدمتها الحفاظ على هيبة الدولة الإيرانية، والتي حاولت “إسرائيل” بعمليتها الغادرة في حي المزّة الدمشقي إسقاطها بالضربة القاضية، معتمدة على تقديرات موقف خاطئة بعدم قدرة إيران على الرد، أو عدم رغبتها في ذلك نتيجة حسابات داخلية وخارجية.

وهنا يجب الإشارة إلى أن المحافظة على الهيبة الإيرانية ليست مرتبطةً بالدرجة الأولى بهيبة الدولة فقط، وإنما هي مرتبطة بشكل أكثر أهمية بهيبة محور المقاومة في المنطقة، والذي تقف إيران على رأسه، وتمثّل بيضة القبّان فيه، وتُفرد له كما هو معروف مساحة واسعة من قدراتها وإمكانياتها العسكرية والمالية، إلى جانب علاقاتها الدولية والإقليمية.

ويمكن لنا أن نعتقد أن “دولة” العدو حاولت استغلال الظروف الدقيقة التي تمرّ بها المنطقة، والحرب المجنونة التي تشنّها على قطاع غزة، وما يرتبط بها في ساحات المساندة الأخرى في لبنان واليمن والعراق وسوريا، إضافة إلى الاستنفار الأميركي والغربي الملحوظ، وتكدّس الأساطيل الأميركية والبريطانية في الممرات المائية الملتهبة، لتحقيق ما عجزت عنه خلال الأعوام السابقة، وهي بذلك كمن أراد الاصطياد في المياه العكرة كما هي عادتها على الدوام.

هذا المخطط الإسرائيلي الجهنّمي كان يمكن أن ينجح في حال فضّلت إيران امتصاص الضربة، واستيعاب تداعياتها، والاستمرار على النهج القديم نفسه، حفاظاً على إنجازات ملموسة حقّقتها في عموم الإقليم يعرفها أعداؤها أكثر من محبّيها، إلا أنّ هذا الأمر لم يحدث، ولم تنجح كلّ بروباغندا الإعلام الموجّه، ولا الموجات الهائلة من الحرب السيكولوجية التي شُنت عليها خلال الأيام التي سبقت الردّ في ثنيها عن خيارها الذي أعلنته على رؤوس الأشهاد، وأكده كلّ أركان الدولة الإيرانية، وفي المقدمة منهم المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية.

لقد بدا واضحاً للجميع عند انطلاق عملية “الوعد الصادق” المشروعة بموجب كل القوانين الدولية، أن الحرص الإيراني بالحفاظ على هيبة الدولة والمحور المقاوم، أهم بكثير من أمور أخرى يعتقد البعض أنها أكثر أهمية، ويبدو أيضاً أن إيران التي تتقن فن اللعب على حافة الهاوية، ولطالما مالت إلى تفضيل هذا الخيار على ما سواه من خيارات، جاهزة للتخلّي في مرحلة ما عن الكثير من مصالحها إذا تطلّب الأمر مقابل الحفاظ على هيبتها كدولة قويّة ومقتدرة، ولا سيما وهي تملك كلّ العوامل التي تضعها في مصاف الدول ذات العمق الاستراتيجي الهائل، والتي مكّنتها من بناء ما يشبه الإمبراطورية رغم ما تتعرّض له من حصار خانق منذ أكثر من 45 عاماً.

ثاني الأسباب التي دفعت إيران للذهاب إلى خيار المواجهة المباشرة مع “دولة” الكيان، رغم ما أحاط بهذا الخيار من مخاطر جمّة قد نشاهد بعضها في الساعات المقبلة في حال قرّرت “إسرائيل” الردّ، هو الحفاظ على التوازنات السياسية والعسكرية في الإقليم، والتي رسّختها خلال السنوات الماضية في مواجهة محور الشر بكثير من التضحيات الجسام التي لا يطّلع عليها إلا العارفون بالشأن الإيراني.

تلك التوازنات سمحت لمحور المقاومة التي تقف إيران على رأسه بالتموضع في كثير من المناطق التي كانت محرّمة عليه في فترات طويلة، وبنشر العديد من إمكانياته العسكرية واللوجستية في ساحات لم يكن متاحاً له أن يفعل ذلك فيها من قبل، وهو ما ضيّق الخناق على “الدولة” العبرية إلى أدنى مستوياته، وجعل المساحة الفاصلة بين قوات المحور و”جيش” العدو تتقلّص إلى حدّها الأدنى، وهو ما يمكن أن يسمح في مرحلة ما، لا نراها بعيدة، في حدوث المواجهة المباشرة والواسعة التي يُبشّر بها الكثير من الخبراء، وتترقّبها “دولة” الاحتلال وداعموها بكثير من التوجّس والخوف.

وعلى الرغم من أن البعض من المهزومين والمثبّطين يرون في وجود قوات محور المقاومة بالقرب من حدود فلسطين المحتلة، نوعاً من الخدمة للمشروع الإيراني الطائفي كما يُطلق عليه البعض، وأنه لا يعدو كونه استمراراً لفكرة “الهلال الشيعي” التي تسعى إيران إلى تحقيقها منذ الثورة الإسلامية المجيدة، إلا أن العارفين ببواطن الأمور يدركون جيداً أثر هذا الوجود على مجمل الأحداث في الإقليم، وما يمكن أن يتركه من تداعيات جيواستراتيجية على جغرافيا المنطقة بغض النظر عن التوقيت أكان قريباً أم بعيداً.

ثالث الأسباب من وجهة نظرنا هو رغبة الجمهورية الإسلامية في إيران بتحاشي الظهور بمظهر الدولة مهيضة الجانب ومكسورة الجناح، وهذا الأمر لا يتعلّق فقط بالعلاقة الصدامية بينها وبين “دولة” الاحتلال، وإنما بالعلاقة المتوترة على الدوام مع رأس الشر في العالم الولايات المتحدة الأميركية، التي ومن دون أدنى شك كانت على علم مسبق بالعملية الإسرائيلية في دمشق رغم نفيها لذلك، وتتابعها عن كثب من خلال التنسيق المشترك مع “جيش” الاحتلال، ومن غير المستبعد على الإطلاق أنها شاركت فيها سواء بالمعلومات الاستخبارية من خلال ما تملكه من أدوات وقدرات هائلة في هذا المجال، أو من خلال المساندة السياسية والقانونية لشرعنة هذه العملية إذ امتنعت عن إدانتها، أو تجريمها، رغم مخالفتها لكل القوانين الدولية ذات الصلة بالمقار الدبلوماسية حول العالم.

وبالتالي أرادت إيران أن تقول لأميركا وحلفها من عرب وعجم أن يدها طويلة، وأن قدرتها على الرد على العدوان الصهيوني يمكن أن تنسحب على أي عدوان آخر من أي جهة أخرى حتى لو كانت أميركا نفسها، والتي جرّبت ذلك بعد اغتيال الشهيد سليماني، وأن الحكمة الإيرانية المعروفة، والصبر على الأذى في كثير من المراحل، يمكن أن ينقلبا إلى غضب عارم، ورد حاسم، يطيح بكل أحلام اليقظة التي يعيشها أعداؤها، والتي يتمنون فيها رؤية هذه الدولة العزيزة تسقط مرة واحدة وإلى الأبد.

على كل حال وبغض النظر عن التداعيات الميدانية قصيرة الأجل للهجوم الإيراني على المواقع الصهيونية، وبعيداً عن المحاولات الإسرائيلية والأميركية للتقليل من نتائج هذا الهجوم، والذي ستكشف الأيام قياساً بتجارب سابقة عمّا حقّقته من نتائج ملفتة ومبهرة، فإن المنطقة ما بعد هذا الرد لن تكون كما قبله، فالمواجهة قد دخلت مرحلة جديدة تختلف جملة وتفصيلاً عن سابقاتها.

وها هي المنطقة تتجّه في ظل رغبة اليمين المتطرف في “الدولة” العبرية إلى مواجهة من العيار الثقيل، لا ترغب فيها الكثير من الأطراف ولا سيما العدو الأميركي، الذي يدرك أكثر من غيره أن نتنياهو المأزوم يحاول جرّه إلى حرب إقليمية مدمّرة، تخرج “إسرائيل” من الكثير من أزماتها الداخلية والخارجية، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ أكثر من تنفّس الصعداء بعد الرد الإيراني المحسوب بدقّة هو ساكن البيت الأبيض، الذي رغم ارتهانه للوبي اليهودي على أبواب الانتخابات الرئاسية، إلا أنه ونتيجة الكثير من المتغيّرات في الفترة الأخيرة لا يرغب في خوض تلك المغامرة، والتي يعرف أكثر من غيره مخاطرها وتداعياتها.

نحن نعتقد أنّ ما جرى ويمكن أن يجري خلال الساعات أو الأيام المقبلة سيبقى ضمن قواعد الاشتباك نفسها المعمول بها سابقاً، ولن يخرج في أفضل الأحوال عن الخطوط الحمر التي أعادت إيران رسمها من جديد بهجومها الواسع على المواقع الإسرائيلية، ولا نرى أن هناك إمكانية في ظل توازن القوى الذي أكدته عملية “الوعد الصادق” أنّ الأمور يمكن أن تتدحرج إلى حرب شاملة يكتوي الجميع وفي المقدمة منهم الكيان الصهيوني بنارها، مع بقاء الفرصة متاحة لتصعيد من الحجم المتوسط في حال ذهبت “دولة” الكيان بعيداً في ردّها على ما جرى فجر اليوم.
المصدر: الميادين