عن الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي

بقلم د. عبد الرزاق مقري

كثير من الحديث في العالم الإسلامي، وخصوصًا العربي، يقال عن الرد الإيراني على العدوان الصهيوني على قنصليتها في سوريا بين من يؤيده ويعتبره بطولة وشجاعة وقوة وندية وانخراطًا حقيقيًا في دعم غزة ومسيرة التحرير، وأن الرد محدود عن قصد وقد حقق أهدافه في بناء التوازن وإظهار إيران كقوة إقليمية قادرة على الوصول إلى المناطق الإسرائيلية في الأرض المحتلة، وأن تهديداتها للأميركان أجبرت هؤلاء على عدم موافقة حليفها الصهيوني على ضرب إيران.

وبين متهم ومشكك بأن الرد مسرحية تم حبكها مع الأميركان والصهاينة؛ لصرف النظر عن جرائم الاحتلال في غزة، وإعادة ترميم خسائرها على مستوى الرأي العام العالمي، وأنه رد ضعيف لم يُصب الإسرائيليين بأي أذى، وأن كل الذي حققه هو إعادة بناء التحالف الغربي لدعم الكيان دون حرج من ردود أفعال القوى الرسمية والشعبية في البلاد الغربية وغيرها التي كانت تعارض ذلك، وشل الديناميكية الرسمية التي تشكلت لصالح فلسطين في بعض الدول في العالم، ومنها دول أوروبية، وعلى مستوى المنظمات الدولية.

كما أن إيران بهذا الرد تريد إلغاء الريادة الفلسطينية في مواجهة الصهاينة التي أخذتها باستحقاق في “طوفان الأقصى”، وأنها في المحصلة تخدم مشروعها المذهبي و/القومي في المنطقة لا أكثر، وأنها تستغل القضية الفلسطينية دون أن تقدم الدعم الكافي في المعركة القائمة، وأن تصرفها معزول لم يسنده حلفاؤها الدوليون، وقد تكون العاقبة عليها وخيمة.

تباين وتشتت

إن هذا التباين الواسع في الآراء يدل على أن الأمة الإسلامية مشتتة وغير موحدة حول مشروع واحد لنهضتها العامة، وتحرير فلسطين واستنهاضها الحضاري، وفرض وجودها في مواجهة المشروع الصهيوني الغربي الذي يستهدفها، ويمكن أن نرد على أقوال المهللين للرد الإيراني والمشككين فيه بميزان العدل، على النحو التالي:

  • من حق أي دولة أن ترد على أي دولة أخرى أو كيان ينتهك سيادتها بشكل مباشر في أراضيها أو في تمثِيلياتها الدبلوماسية الرسمية من سفارات وقنصليات وغيرها خارج أراضيها، ولا أحد يستطيع أن يدين إيران على ما قامت به، بل إن القانون الدولي يتيح لها ذلك.
  • لا تستطيع إيران ألا ترد ولو لم ترد لبقيت سمعتها في الحضيض ولكان رد فعلها مناقضًا لخطابها وتهديداتها للكيان وللسّقف المرتفع في إظهار قوتها لشعبها وللرأي العام.
  • القول؛ إن الرد حقق أهدافه أو لم يحققها مسألة نسبية، وإن ما يبين ذلك النتائج السياسية وليست الميدانية في هذه المواجهة المحدودة، والتقييم سابق لأوانه قبل رؤية رد الفعل الصهيوني، ومدى قدرة إيران على تصعيد ضرباتها عندئذ، وحجم الأضرار المتبادلة على المستوى العسكري والدبلوماسي، وعلى مستوى الجبهة الداخلية في الطرفين.
  • في حالة عدم الرد الإسرائيلي على الضربات الإيرانية بالأمس، تكون كفة الإنجاز لصالح إيران رغم محدودية الضرر الذي أصاب الكيان؛ من حيث إنها أظهرت للعالم فعليًا بأنها قوة إقليمية تستطيع أن تدافع عن نفسها، وأن تصل إلى أي بلد في المنطقة دون أن تخشى أي ردّ فعل ضدها.
  • القول؛ إنّ الرد ضعيف لم يصب الكيان بأي أذى، صحيحٌ، وهو أمر لا شك مخيب للأمل لكثير من الفلسطينيين ولِمناصري القضية الفلسطينية والمتعاطفين والغاضبين مما أصاب أهلنا في غزة، ولا ندري هل هو فعل عسكري ضعيف فعلًا، أم هي خيارات إستراتيجية إيرانية تتعلق بإعادة الاعتبار ولِعدم الرغبة في توسيع المواجهة، ولا ندري ما هي طبيعة وحجم التنسيق مع المقاومة الفلسطينية لكي تبقى مركزية المواجهة في فلسطين؟، والمرجح أنه خيار إستراتيجي مرحلي.
  • القول؛ إن إيران لها القدرة على التأثير في القرار الأميركي؛ لعدم انخراطها في المواجهة ضدها إلى الجانب الإسرائيلي، يمثل نصف الحقيقة؛ إذ إنّ أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، ودولًا أوروبية أخرى انخرطت في صد الهجوم الإيراني، واعتراض الصواريخ الإيرانية وطائراتها المسيرة، ولكن في مقابل ذلك، أعلنت عدم مشاركتها في الهجوم على إيران؛ لأنها تعلم فعلًا أن إيران تستطيع إلحاق ضرر كبير بقواعدها العسكرية وبوارجها في المنطقة، ومن جهة أخرى لا ترغب أميركا في توسيع الحرب والدخول في مواجهة عسكرية في الظروف الانتخابية القائمة في أميركا، ولأن ذلك سيكون في صالح أعدائها ومنافسيها الدوليين الروس والصينيين.
  • القول؛ إن دخول إيران في المواجهة المباشرة يضر بـ “طوفان الأقصى” وإنجازات المقاومة وبِالتعاطف الكبير في الرأي العام العالمي الذي تشكّل لصالح أهل غزة والقضية الفلسطينية، وأنه يخدم نتنياهو والجيش الإسرائيلي العالق في غزة، قولٌ فيه كثير من الصدقية، خصوصًا في المرحلة الراهنة التي يلفظ فيها العدوان أنفاسه الأخيرة سواء على المستوى الأمني والعسكري وعلى مستوى جبهته الداخلية أو في الرأي العام العالمي. ولكن هذا قدر مقدور لا ندري كيف ستكون آثاره الأخيرة على مصير معركة “طوفان الأقصى”، والأصوب والله أعلم لو كان الرد موضعيًا لهدف محدد داخل فلسطين المحتلة.
  • الجزم بأن ما يحدث سيناريو محبوك بالتنسيق بين الإسرائيليين والإيرانيين؛ لإنقاذ نتنياهو من ورطته ولضرب المشروع السني المتمحور حول المقاومة الفلسطينية، قولٌ سخيف مبني على الظنون والأوهام والبعد الطائفي “وكرد فعل عاطفي مفهوم كذلك على المظالم التي لحقت بكثير من السنة في العراق وسوريا من قبل إيران وحلفائها”، دون إدراك طبيعة المواجهة بين المشروع الإيراني الشيعي والمشروع الصهيوني.

استدراج وتمنيات

ولكن في نفس الوقت يمكن الجزم بأن نتنياهو نجح في استدراج إيران للدخول في المعركة؛ لكسر الحصار الذي يشتد حوله في الحكومة وعلى مستوى الشارع الإسرائيلي، وعلى المستوى الدولي، وما سيلي من ردود أفعال متبادلة ومستوى المواجهة ونتائجها، هو الذي سيحدد من الرابح والخاسر.

  • لا شك أن ثمة في العالم العربي والإسلامي من يتمنى أن تؤدي هذه المواجهة إلى تدمير إيران ولو كان ذلك لصالح إسرائيل، وضد التوازن الدولي لصالح الغرب، بل هناك من سينخرط في المعركة ضدها إراديًا أو بتكليف من أميركا، وقد يتشكل تحالف غربي تنخرط فيه بعض الدول الإسلامية والعربية ضد إيران إذا اتسعت المواجهة، ولكن سيكون مع إيرانَ، الصينُ وروسيا والعديد من الدول المعادية للهيمنة الأميركية، غير أن دعم هذه الدول سيقتصر على المستوى الدبلوماسي والإعلامي، وربما توريد السلاح، وفي كل الأحوال وبالنظر لأسباب قيام الحروب الكبرى في التاريخ، وخصوصًا الحربين العالميتين: الأولى والثانية، يمكننا أن نقول؛ إننا على أعتاب حرب عالمية، ولكن المانع الأساسي لوقوع هذه الحرب في المرحلة الراهنة، هو عدم رغبة الأميركيين فيها؛ لعدم الاستعداد لها، خصوصًا على مستوى الداخل الأميركي، وخوفًا من عدم القدرة على الحسم السريع على نحو ما يقع في الحرب الأوكرانية، ومن التورط في حالة استنزاف تكون في مصلحة الصين وروسيا.
  • القول؛ إن إيران صاحبة مشروع مذهبي أو قومي، وإنها تخدم مشروعها ومصالحها باستعمال القضية الفلسطينية قولٌ سخيف كذلك، إذ لا يوجد عيب في أن يكون لأي دولة مشروع قومي يقوم على الدين أو على المذهب، ولكن العيب في ظلم وعدوانية المشروع على الغير. وإن أكبر مشروع عدواني يقوم على استعمال البعد الديني والثقافي والحضاري هو المشروع الصهيوني الغربي.

ريادة ومصداقية

وإذا كان المشروع القومي و/أو المذهبي الإيراني يقوم على التقاطع مع كفاح الفلسطينيين؛ لتحرير فلسطين فمرحبًا به. وإنما العيب كل العيب هو على الدول العربية التي لا تملك أي مشروع سوى مشروع السلطة ومتعها ومصالحها الشخصية والعائلية والتي لم تحقق إنجازًا ذا بال لا لشعوبها ولا للقضية الفلسطينية، والتي بَانَ ضعف ومهانة بعضها، وتآمر البعض الآخر في “طوفان الأقصى”.

المصدر: الجزيرة