لماذا يخشى الغرب معركة رفح ؟
بقلم عباس محمد الزين
تطرح مسألة الاجتياح الإسرائيلي لرفح عدة إشكاليات لدى الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً فيما يخص المنطقة.
عندما نطرح سؤالاً بشأن ما الذي يتباين بين رفح وسائر المحافظات في غزة، فإن الضخ، إعلامياً وسياسياً، في الغرب، يتحدث عن وجود أكثر من مليون نازح في بقعة جغرافية صغيرة، الأمر الذي سيؤدي إلى مجازر، والآلاف من الضحايا. يأتي ذلك بينما وصل عدد شهداء الإبادة الجماعية، التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، إلى نحو 35 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى والمفقودين. لذلك، تسقط الرواية الغربية، بشأن المخاوف من غزو رفح، أمام حجم الكارثة التي تعرّض لها القطاع، ولا يزال، بدعمٍ ومشاركة من دول الغرب ذاتها.
إعلان حركة حماس، في الساعات الأخيرة، موافقتها على مقترح للوسطاء يضمن وقف إطلاق النار وتحقيق مطالبها، لا يظهر، وفق السيناريو الذي حدث، على أنه رضوخ لتهديدات الاحتلال باجتياح رفح، بقدر ما هو فهم معمّق لواقع المعركة، مع الدعوات الغربية للاحتلال إلى عدم الإقدام على أي اجتياح لرفح، أقله حتى استنزاف جميع سبل التفاوض.
فما الأسباب الحقيقية لخشية الغرب من أي غزو إسرائيلي لرفح في جنوبي غزة؟
انكشاف الإخفاق الإسرائيلي
تمثّل معركة رفح آخر نقطة جغرافية في العدوان الإسرائيلي على غزة، أي إنها آخر محاولة إسرائيلية ضمن مسار تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب، وهي القضاء على المقاومة في غزة، واستعادة الأسرى الإسرائيليين من دون شروط. على مدار الأشهر الـ7 الماضية، وبينما كانت آلة القتل الإسرائيلية تمارس أعلى مستويات الضغط ضد أهل غزة والمقاومة، فإن الاحتلال لم يتمكن من الوصول إلى أسراه، إلّا عبر مفاوضات غير مباشرة مع قادة المقاومة، تضمّنت هدنة لأيام. أظهرت المعارك، من الشمال وصولاً إلى محافظة خان يونس، أن الاحتلال الإسرائيلي غير قادر على تحقيق أهدافه من دون التفاوض مع المقاومة، التي يقول إنه لن يُنهي حربه إلا عبر القضاء عليها. وإذا تجاوزنا مسألة – على الرغم من أهميتها – أن عناصر المقاومة الفلسطينية لا تزال تتحرك في المحافظات والمناطق، التي ادّعى الاحتلال أنه انتهى منها، من خلال الكمائن والعمليات وإطلاق الصواريخ، فسنلاحظ أن قدرة الاحتلال على المناورة، عبر الأسباب التي يتحدث عنها لمواصلة حربه، تَضِيق كلما وسّع الجغرافيا التي يوجد فيها.
أمنياً وعسكرياً، واستناداً إلى العمليات التي سبقتها، لن تُظهِر رفح أي متغيرات فيما يخص الأهداف الإسرائيلية. فعندما كان نتنياهو يتحدث عن أن دخول خان يونس مهم في سياق استعادة الأسرى وإنهاء المقاومة وقتل قادتها، كانت الصواريخ لا تزال تخرج من شمالي غزة، وكان عدد القتلى لدى جنود الاحتلال في ارتفاع مستمر في الشمال. الأكثر من ذلك، فإن الأسرى، الذين استعادتهم حكومة الاحتلال خلال الهدنة التي سبقت اجتياح خان يونس، خرج معظمهم من شمالي غزة؛ أي المنطقة التي كان يدّعي الاحتلال أنه انتهى منها عسكرياً، ويستعد لمرحلة مقبلة.
مع كل مرحلة جديدة يدخلها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على غزة، كان الإخفاق في تحقيق الأهداف يتكشَّف أكثر. وبعد الشمال والوسط وخان يونس، فإن السؤال، الذي يُوجَّه إلى نتنياهو بشأن عدم تحقيق أهداف الحرب، تتم الإجابة عنه بأن ذلك لا يمكن من دون دخول رفح. لكنّ وجهة النظر المراقِبة للحرب، إن كانت داعمةً للاحتلال أو مواجِهةً له، تدرك أن تحقيق الأهداف تلك يأتي ضمن مسار، ويتكوّن من مراحل وإشارات تدل عليه، فيكون دخول رفح ضرورة لاستكمال تحقيق تلك الأهداف، لا تحقيقها بأكملها، لأن الاحتلال الإسرائيلي لم يقضِ على المقاومة في الشمال والوسط وخان يونس، والباقي هو رفح،لأنه لم يستعِد ثلث الأسرى مثلاً بالقوة، وعليه استعادة من هم باقون مع المقاومة في رفح. لذلك، ما لم تغيّره المعادلات العسكرية والأمنية والسياسية في محافظات غزة لن تغيّره في رفح. وأمام هذه المعطيات والحقائق، سيأتي دخول رفح ليكشف كامل إخفاق الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافه في غزة، إلا إذا كان نتنياهو سيخرج ليتحدث عن “ضرورة اجتياح سيناء من أجل القضاء على المقاومة واستعادة الأسرى!”.
ينظر الغرب إلى معركة رفح على أنها آخر مغامرات نتنياهو الفاشلة في الحرب، ومعها سيصبح الموقف الإسرائيلي في أي مفاوضات مقبلة ضعيفاً جداً مع استنزاف كامل “نقاط القوة” التي هدد بها. وبما أن الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، يُدير الإبادة الجماعية على نحو يضمن المصالح الإسرائيلية التي تتداخل مع مصالحه، فإن الخشية من انكشاف الإخفاق الإسرائيلي هي ذاتها الخشية من تضرر نفوذه على صعيد المواجهة في المنطقة ضد محور المقاومة، ولاسيما أن واشنطن تحديداً تبنّت، بصورة كاملة، الأهداف التي أعلنتها حكومة الاحتلال في بداية الحرب، ودفعت أساطيلها وحاملات طائراتها في محاولة لطمأنة “إسرائيل” وردع أعدائها وإعطاء مساحة تحرّك لحكومة نتنياهو في الاستفراد بغزة.
موازين القوى في المنطقة
تطرح مسألة الاجتياح الإسرائيلي لرفح عدة إشكاليات لدى الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، فيما يخص المنطقة. الإشكالية الأولى تتعلق بمسار التطبيع بين “إسرائيل” وبعض الدول، وأبرزها السعودية، انطلاقاً من أن مسار التطبيع سيتأثر طبعاً بعدم الاستقرار وتفرّد حكومة نتنياهو بالقرار. فذهاب دولة، مثل السعودية، في اتجاه هذه الخطوة، في الوقت الذي يواصل الاحتلال الإبادة الجماعية، سيُفقدها ليس فقط المبرر، بل أيضاً الإطار السياسي الذي تريده من أجل فرض حضورها في الملفات الإقليمية، وضمنها القضية الفلسطينية. ومن المهم الإشارة إلى أن التطبيع السعودي – الإسرائيلي لن يكون له تأثير كبير في عمل المقاومة في المنطقة ككل، بقدر تأثيره في مكانة الدول التي تسير فيه، في لحظة “جنون إسرائيلي” يُخفي ضعفاً وتراجعاً. فحتى اتفاقيات التطبيع، التي تمت في الأعوام الماضية بين دول عربية “وإسرائيل”، ما كانتلتتم الآن وفق الظروف الراهنة.
بناءً على ذلك، تعيد الحرب على غزة، في مراحلها كافة، ولاسيما تلك المتعلقة برفح، فرضَ قواعد ومسارات جديدة في المنطقة تتعلق بالخطط الأميركية، لكنها، في الوقت ذاته، تثير عاصفة من المخاوف لدى الغرب، مفادها أن اجتياح رفح قد يوسّع نطاق المواجهة بصورة أكبر لدى جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وسوريا، والبحرين أخيراً. والنقطة المركزية لا تتعلق فقط بقوة حضور جبهة الإسناد وما ستشكله من ضرر على المصالح الغربية (اليمن مثلاً الذي هدد بمراحل جديدة في حال دخول رفح)، بل بأن قوة الحضور تلك تتزامن مع تراجع حلفاء الغرب وترددهم، وعدم قدرتهم على تغطية أي فعل إسرائيلي، أو السير بمخطط أميركي واسع، الأمر الذي سيؤدي إلى خلل في موازين القوى إقليمياً، ويؤسس مرحلة جديدة تتشكل فيها تحالفات وتفاهمات، بعيداً عما تريده واشنطن.
وإذا كانت المنطقة على صفيح جيوسياسي ساخن، يمكن أن ينفجر في أي لحظة، فإن الانفجار المحتمل لن يصبّ في مصلحة الغرب، الذي يحاول إطفاء نارٍ هنا ونارٍ هناك. وليس الرد الإيراني الأخير سوى إثبات، ليس فقط على ذلك، بل أيضاً على عدم رغبة “إسرائيل” في توسيع نطاق الحرب، بسبب عدم قدرتها على ذلك، خلافاً لما يتم ترويجه.
ويأتي ذلك، بينما يقوم الرأي العام الغربي، الذي يتحول الموضوع الفلسطيني بالنسبة إليه إلى قضية عداء للاحتلال الإسرائيلي، بالضغط على حكوماته، على نحو بات يمكن أن يؤثر من خلاله في القرار. وإن كانت الأمور تحتاج إلى مزيد من النضوج، لكن إنجازاً حقيقياً يسجَّل لغزة ومقاومتها.
غزو الاحتلال الإسرائيلي رفحَ لن يزيد في “إنجازات” نتنياهو المزعومة أيَّ أمرٍ إضافي، لكنه سيُطيح آخر ورقة يهدِّد بها، صباحاً ومساءً. ولعلّ ما ذكره الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطابه منذ مدة، يلخّص الحال الإسرائيلية، استناداً إلى الوقائع والأرقام، ومفاده أن “إسرائيل”، حتى لو ذهبت إلى رفح فهي خاسرة، لأن الجغرافيا التي تحكم الربح والخسارة فقدَها نتنياهو في صبيحة السابع من أكتوبر، عندما اقتحم المقاومون الأراضي المحتلة، وانهار الردع الإسرائيلي، الذي بات عليه، وفق تبعيته للغرب المفروضة عليه وجودياً، أن يوازن بين توغل دباباتة في رفح، واستهدافِ صنعاء سفنَه في البحر الأبيض المتوسط.
المصدر: الميادين