ساعات فارقة في القضية الفلسطينية
بقلم محمد سليم قلالة
الفلسطينيون أدرى بواقع المعركة وتفاصيلها اليوم.. ولعلهم أدركوا بالفعل أهمية توحيد الصف، فلاحت في الأفق هذه الأيام بوادر وحدة وطنية غير مسبوقة.. نتمنى ذلك، ولكن أكثر ما نتمناه وننتظره هو أن تتمكّن المقاومة من تحقيق نصرها المنتظر، وقد قطعت أشواطا كثيرة نحوه.. يكفي أن القضية الفلسطينية اليوم لم تعد شغل المحيط المجاور فحسب بل شغل كل العالم، وأنها بدل أن توأد وهي حية، كما سعى البعض إلى ذلك مقابل ما عرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، ها هي تحيا من جديد وكأنها ولدت بالأمس، ولا تحيا في قلوب أبنائها فحسب بل في قلوب شعوب العالم كافة…
في هذه اللحظات، وبعد تضحيات جسّام لا يعلم مداها سوى الله، تتعالى أصوات هنا وهناك تتحدث عن “السّخاء” الصهيوني في ما جرى تقديمه في آخر جولة من المفاوضات غير المباشرة، وهذا “السخاء” المزعوم يتمثل في وقف مؤقت لإطلاق النار مقابل جزء من الأسرى، مع بقاء الاحتلال في القطاع وتجميد اجتياح رفح ثم يستأنف العدوان بعد حين!
أيّ منطق هذا الذي يريد المحتل فرضه على أرض الواقع؟ ولو لم أكن أعلم بأن المقاومة أدرى بطبيعة المعركة وخصائص الميدان، لقلت إنه ينبغي أن ترفض المقاومة جميع اقتراحات العدو إلا اقتراحا واحدا: الوقف الشامل والكامل والفوري لإطلاق النار، ثم انسحاب الاحتلال من جميع الأراضي المحتلة في القطاع وفي الضفة الغربية وفي كل أراضي حرب سنة 1967، ثم تحرير جميع الأسرى في السجون الصهيونية، وإعلان استقلال الدولة الفلسطينية، تماما كما حدث في تجربة الثورة الجزائرية: إعلان وقف إطلاق النار، تحرير جميع الأسرى، تقرير المصير والاستقلال، ذلك أن حجم التضحيات هو إلى حد الآن الأكبر منذ احتلال فلسطين، وينبغي ألا تذهب هذه التضحيات سدى أو من أجل تحقيق أهداف تكتيكية..
كما أن العدو الصهيوني لم يجد نفسه في حالة ضعف وارتباك مثلما هو عليه الآن، ولم يعد يستطيع تحمّل مزيد من الخسائر جراء الحرب، فقط هي جرائم الإبادة التي يحسن ارتكابها.. لذلك، فإنه ليس من المجدي الرجوع في منتصف الطريق، أو القبول بالحدود الدنيا باسم مفاوضات مغشوشة لا تضمنها دول كبرى مثل الصين وروسيا والهند على أقل تقدير..
حقيقة إنها ساعات وأيام فارقة في القضية الفلسطينية هذه الأيام؛ إما أن تتعرّف على طريق بناء دولة فلسطين المستقلة على جزء من فلسطين التاريخية بسيادة كاملة، وهذا هو هدف المقاومة الأساس، أو تستمر في الكفاح المسلّح طويل الأجل بما يحمل من تضحيات جسّام إلى حين تحقيق النصر الكامل على العدو والاستقلال، ذلك أننا خبرنا مع الأعداء الغربيين من الاستعماريين أنهم حتى الهزيمة العسكرية التي يخرجون منها مدحورين يصفونها بـ”الانتصار العسكري”، ويسمّون الاستقلال المنتزع منهم بالقوة، “منّة” أو هدية معطاة منهم لعامة الناس…
وهو تماما ما يقصده الصهيوني والأمريكي وهما يتحدثان عن “العرض السخي” في المفاوضات! فأيّ “سخاء” مع هذا التدمير والقتل والتشريد؟ وأيّ توقّف في منتصف الطريق بعد هذا؟ لذا يبدو لنا من الطبيعي اليوم أن نتساءل: هل نحن بالفعل قبيل وقف إطلاق نار على طريقة الثورة الجزائرية يليه مباشرة إطلاق سراح الأسرى ثم الشروع في الإعمار، أم أننا بصدد لعبة دولية وإقليمية تريد إخراج الصهاينة من الورطة التي هم فيها، وتقديم حلول ترقيعية، فيها من الخداع والمكر أكثر مما فيها من حسن النية والبحث عن الحلول؟ ذلك ما سنراه في قادم الأيام.. والمقاومة أقدر من غيرها على تقدير الموقف واتخاذ القرار الذي من شأنه تحقيق الأمل الذي طال انتظاره.
المصدر: الشروق