هل تدفع أزمة كورونا بالصين الى إستخلاف أمريكا في قيادة العالم ؟
يُمثِّل فيروس كورونا الجديد اختبارا هائلا للعولمة، فقد انهارت أهم سلاسل الإمداد، وسارعت الدول لتكديس إمداداتها الطبيّة وحظر التنقُّل والسفر، وباتت الأزمة تُحتِّم إعادة تقييم شاملة للاقتصاد العالمي المتداخل، فلم تتوقف العولمة عند المساعدة بالانتشار المتسارع لهذا المرض المعدي، لكنها عملت أيضا على رعاية أواصر وثيقة بين الشركات والدول جعلت هذه الأخيرة أكثر عُرضة لتلقّي الصدمات المفجعة. والآن فقط يتكشَّف للدول والشركات مدى ضعفها وهشاشتها.
لكن العِبرة من فيروس كورونا الجديد ليست إخفاق العولمة، بل هشاشتها، برغم أو حتى بسبب ما تمتلكه من مزايا. فلعقود من الزمن أدّت جهود الشركات في التخلُّص من الفائض لثروة غير مسبوقة، لكن هذه الجهود أيضا قلّلت من كمية الموارد غير المستغلَّة -وهو ما يشير إليه الاقتصاديون باسم “الفائض”- في الاقتصاد العالمي ككل. وفي الأزمنة العادية عادة ما ترى الشركات “الفائض” مؤشرا على إمكانيات إنتاج مُعطَّلة أو مُهدَرة، أما في أزمنة الأزمات فيمكن للفائض الشحيح أن يُفتِّت النّظام الأكبر بالقضاء على احتياطات ضرورية تحول دون انهياره.
والنقص في احتياطيّ هذه البدائل المصنَّعة يمكن أن يتسبّب في انهيار سلاسل الإمداد، كما حدث لبعض القطاعات الطبية والصحية نتيجة لفيروس كورونا، حيث واجهت الدول المزوّدة بالخدمات الطبية ارتفاعا هائلا في الطلب العالمي مما دفعها للتنافس فيما بينها على الموارد، لينتج عن ذلك تحوّل في ديناميكيات القوة في أوساط اقتصادات الدول العظمى، حيث تعمل الدول المستعدة لمواجهة الفيروس الجديد إما على تكديس الموارد لنفسها أو مساعدة الدول العاجزة عن الأمر، وهو ما سيؤدي بهذه الدول في النهاية إلى بسط نفوذها على الساحة العالمية.تأثير هش
تقول الأفكار السائدة إن العولمة قد خلقت سوقا عالميا مزدهرا يسمح للمصنّعين ببناء سلاسل إمداد مرنة يمكن أن تكون البديل لأحد المزودين أو داعما لسلسلة إمداد أخرى بحسب الحاجة، وأصبح كتاب آدم سميث “ثروة الأمم” كنزا عالميا استفادت منه الأعمال التجارية في تقسيم العمل المعولم؛ حيث وفّرت التخصصيّة فعالية أكبر أفضت بدورها إلى النمو
لكن العولمة خلقت أيضا نظاما مترابطا معقدا، اعتنقت فيه الشركات عقيدة سلاسل الإمداد التي أدّت إلى ظهور نسيج متشابك من شبكات إنتاج حاكت خيوط الاقتصاد العالمي بعضها ببعض، وباتت أجزاء المُنتَج الواحِد تُصنَّع في عشرات البلدان. هذا التوجُّه نحو التخصصية في بعض الأحيان جعل من الصعب إيجاد البدائل خاصة للمهارات أو المنتجات النادرة. ومع اتّجاه الإنتاج إلى العالميّة أصبحت البلدان أكثر ترابطا واعتمادا على بعضها بعضا، بما يعني أنّه لا توجد دولة واحدة يمكن أن تُنتج كل البضائع والأجزاء التي يحتاج إليها اقتصادها. وجرى الافتراض أن الاقتصادات القومية مُضمَّنة في شبكة عالمية ضخمة من المزودين.
لكن الوباء الذي تسبّب به فيروس كورونا “كوفيد-19” يكشف مدى هشاشة هذا النظام المعولم، حيث يمكن لبعض القطاعات الاقتصادية -بالأخص تلك المالكة لمستويات مرتفعة من الفائض وينتشر إنتاجها في عدد من البلدان حول العالم- أن تعبر الأزمة بشكل جيد نسبيا. في حين يمكن للقطاعات الأخرى أن تجد نفسها على شفير الانهيار في حال حدَّ الوباء من قدرة أحد المزودين في أحد البلدان على إنتاج قطعة ضرورية واسعة الاستخدام. فعلى سبيل المثال ثمة قلق لدى مُصنّعي السيارات في أوروبا الغربية إزاء نقص القطع الإلكترونية الدقيقة بعد إجبار المُصنِّع الوحيد، شركة “MTA لحلول السيارات المتقدّمة”، على إيقاف الإنتاج في أحد مصانعها على التراب الإيطالي.
في الماضي القريب لربما كان لدى المصنّعين مخزونات متعددة من الإمدادات لوقاية أنفسهم من موقف كهذا، أما في عصر العولمة فتتفق العديد من الأعمال التجارية مع مقولة سائدة لتيم كوك، المدير التنفيذي لشركة أبل، إن التخزين “شرٌّ في جوهره”، وبدلا من دفع الأموال لتخزين القطع التي يحتاجون إليها في إنتاج منتج من المنتجات، تعتمد هذه الشركات على سلاسل إمداد “في الوقت المناسب” تؤدي وظيفتها المستوحاة من اسمها. لكن في خضم وباء عالمي يمكن لعبارة “في الوقت المناسب” أن تصبح متأخرة جدا، حيث شهد السوق العالمي للحواسيب المحمولة مثلا، كنتيجة جزئية لمشكلات سلاسل الإمداد، هبوطا بنسبة 50% في شهر فبراير/شباط المنصرم، ومن المتوقع لسوق الهواتف الذكية أن يهبط بنسبة 12% في الربع السنوي القادم، إذ يتم تصميم كلا المنتجين باستخدام مُصنّعين آسيويين مختصين.
تُعطِّل ورطة الإنتاج في قطاع تصنيع الإلكترونيات محاربة فيروس كورونا أيضا، وهناك إمدادات طبية ضرورية مثل الكواشف (قطع ضرورية في عدّة الاختبار التي تستخدمها المختبرات لكشف الحمض النووي للفيروس المتفشي) على وشك النفاد حاليا أو أنّها نفدت وانتهت بالفعل في العديد من البلدان. وتُهيمن على إنتاج هذه الكواشف الطبية الضرورية شركتان هما الشركة الألمانية “Qiagen” (التي اشتُريت مؤخرا من قِبل العملاق الأميركي ثيرمو فيشر ساينتفك)، ومختبرات “روشيه” الموجودة في سويسرا. وكانت كلتا الشركتين عاجزتَيْن عن مواكبة الارتفاع الهائل في الطلب على منتجاتهما. وأدّى هذا العجز إلى التأخُّر في إنتاج عدّة الفحص في الولايات المتحدّة، مَن وجدت نفسها مضطرة للوقوف في طابور خلف دول أخرى لشراء المركبات الكيميائية التي تحتاج إليها.
مع انتشار الفيروس الجديد أذعنت بعض الدول لأسوأ غرائزها، فحتى قبل تفشي “كوفيد-19” كان المصنّع الصيني يُنتج نصف الأقنعة الطبية حول العالم، وكنتيجة للأزمة عمل المصنّعون الصينيّون على مضاعفة الإنتاج، لكنّ الحكومة الصينية قامت بشراء الإمدادات الكاملة من الأقنعة في أرجاء البلاد، بالتزامن مع استيراد كميات ضخمة من الأقنعة والكمامات من الخارج. ولا شك أن الصين كانت بحاجة إلى الأقنعة، لكن فورة الشراء أحدثت انهيارا ضخما في الإمداد أدّى إلى الحد من استجابة الدول الأخرى للمرض.
لم يكن سلوك الدول الأوروبية بأفضل من نظيره الصيني، حيث قامت كلٌّ من روسيا وتركيا بحظر تصدير الأقنعة والكمامات الطبية، وحذت ألمانيا حذوهما مع أنها عضو في الاتحاد الأوروبي الذي يُفترَض أن لديه “سوقا موحّدا” وتجارة حرة غير مقيّدة ضمن الدول الأعضاء. أما الحكومة الفرنسية فقد اتخذت خطوة أبسط في الحجر على الأقنعة المتاحة، ونادت أصوات في الاتحاد الأوروبي بأن من شأن إجراءات من هذا النوع أن تُقوِّض التضامن بين دول الاتحاد وتحول دون إمكانيّة إيجاد نهج مشترك في محاربة الفيروس الجديد، دون أن تجد آذانا مُصغية.
هذه الديناميكيات الاقتصادية تُهدِّد بتصاعد الأوضاع وتعميق الأزمة بعرقلة سلاسل الإمداد الخاصة بالمستلزمات الطبية العاجلة. وتبدو الأزمة أكثر ترويعا في حالة الولايات المتحدة الأميركية التي تأخرت في الاستجابة بشكل متماسك للوباء، كما أنها تفتقد للعديد من المستلزمات الطبية التي ستحتاج إليها، ورغم أن أميركا تمتلك خزانا قوميا من الأقنعة الطبية فإنه توقّف عن التعبئة المستمرة منذ عام 2009، كما أنه يحتوي على جزء من الرقم الذي قد تحتاج إليه البلاد.
وبما لا يُثير الدهشة، قام بيتر نافارو، المستشار التجاري للرئيس دونالد ترمب، باستخدام هذا العجز وأنواع العجز الأخرى لتهديد الدول الحليفة وتبرير المزيد من الانسحاب من سوق التجارة العالمية، مجادلا بأن على الولايات المتحدة “أن تُعيد الإمكانيات التصنيعية وسلاسل الإمداد الخاصّة بالأدوية الضرورية إلى أرض الوطن”. ونتيجة لذلك تُشير تقارير إلى قلق ألماني من اتخاذ إدارة ترمب خطوات أكثر عدوانية تتمثَّل في الاستحواذ التام على لقاح جديد تقوم شركة ألمانية بتطويره لكي يُستخدم داخل الولايات المتحدة حصرا، وحاليا تطرح برلين خيار تقديم عرض منافس للقاح أو منع نقل ملكيته للأراضي الأميركية.تأثير فيروسي
بينما استخدمت إدارة ترمب الوباء للتنصل من الاندماج العالمي؛ تستخدم الصين الأزمة لإظهار عزمها على قيادة العالم بصفتها البلد الأوّل الذي تعرّض لضربة فيروس كورونا، فقد عانت الصين بشدّة على مدار الأشهر الثلاث الفائتة، لكنها تتماثل للتعافي في الوقت الحالي الذي يشهد استسلام بقية العالم للوباء. ويفرض ذلك مشكلة على المصنعين الصينيين الذين بدأ العديد منهم بالنهوض مجددا لكنهم يواجهون ضعف الطلب من الدول الواقعة في الأزمة، غير أن ذلك يمنح الصين فرصة قصيرة المدى للتأثير على سلوك الدول الأخرى. فبرغم الأخطاء المرتكبة في البداية والتي من المُرجَّح أن تُكلِّف آلافا من الأرواح؛ تعلّمت الصين كيف تكافح الفيروس الجديد، كما أنها تمتلك مخزونا من المعدات وهي أصول قيّمة وظّفتها الصين ببراعة.
في بداية مارس/آذار الحالي ناشدت إيطاليا دول الاتحاد الأوروبي الأخرى توفير معدات طبية للطوارئ بما أن النقص الحاد أجبر أطباءها على اتخاذ قرارات مفجعة بشأن فئة المرضى الذين سيحاولون إنقاذهم والفئة التي سيتعيّن عليها مواجهة الموت، ولم تستجب أي دولة أوروبية، لكن الصين استجابت وعرضت إرسال أجهزة تنفس اصطناعي وأقنعة وبزّات واقية بالإضافة إلى الماسحات، وكما جادل راش دوشي وجوليان غيورتس، الخبيران في الشأن الصيني، فإن بكين تسعى إلى تقديم نفسها كقائد في المعركة العالمية ضد الفيروس الجديد لتأكيد نيّاتها الطيبة وتوسعة نطاق تأثيرها.
وهذا أمر غريب بالنسبة لإدارة ترمب التي كانت بطيئة في الاستجابة للفيروس الجديد، والتي تعتقد أن حظر السفر إلى أوروبا هو أفضل دفاع ضد المرض الذي بدأ يتفشى بالفعل على أراضيها. وبعيدا عن كونها مزودا عالميا للسلع العمومية، فإن الموارد الأميركية شحيحة بما لا يُمكّنها من توفير شيء للدول الأخرى. ومما يزيد الأمور سوءا أن أميركا قد تجد نفسها عما قريب تتلقّى الصدقات الصينية، حيث عرض “جاك ما”، الملياردير الصيني والمؤسس المشارك لموقع “علي بابا”، التبرع بنصف مليون عدّة اختبار ومليون قناع طبي.
الجغرافيا السياسية الجديدة للعولمة
يُعاني صُنّاع السياسة حول العالم في التعامل مع فيروس كورونا ونتائجه، حيث سيكون عليهم مواجهة حقيقة أن الاقتصاد العالمي لا يعمل كما كانوا يتخيلون. فالعولمة تنادي بالتخصصية المتزايدة في أرجاء البلدان كنموذج يكتنف على العديد من المزايا، لكن نقاط ضعفه مذهلة أيضا، حيث يمكن لمزود الخدمة الوحيد، أو مناطق محددة في العالم تختص بمنتج واحد فحسب، أن يتسببوا في هشاشة مفجعة في أوقات الأزمات بانهيار سلاسل الإمداد، وربما تتكشف المزيد من نقاط الضعف هذه في الشهور القادمة.
ولعل النتيجة تكون تحوُّلا في السياسات العالمية، فقد تُقرِّر العديد من البلدان بما أن صحّة وسلامة مواطنيها على المحك أن تحظر الصادرات أو تُصادر إمدادات ضرورية للخارج، حتى إن عنى الأمر إلحاق الضرر بدول حليفة أو جارة لها. ويمكن لانسحاب بهذا الحجم من العولمة أن يحوِّل السخاء إلى أداة أكثر فعاليّة في التأثير للدول التي تستطيع تحمل تكلفتها. وحتى اللحظة لم تكن الولايات المتحدة هي القائد في الاستجابة العالمية لفيروس كورونا الجديد، فقد تنازلت عن بعض من هذا الدور، على الأقل، لصالح الصين، ويعيدُ الوباءُ تشكيل الجغرافيا السياسية للعولمة، لكن الولايات المتحدة لا تتكيّف مع الأمر، إنها عوض ذلك مريض يتوارى تحت أغطية السرير.
مترجم عن Foreign Affairs