مخرج دستوري آمن لمسار يفتقر للإجماع

بقلم حبيب راشدين

قبل ستة أسابيع من عرض مسودة الدستور على الاستفتاء الشعبي، لم تبرمج الحكومة أي شكل من أشكال النقاش الشعبي، الحزبي أو النخبوي حول مضامين التعديل المقترَح، الذي حُرم قبل ذلك من نقاش داخل برلمانٍ مطعون في شرعيته، وتجاهلت لجنة الخبراء أغلب ما وفد عليها من مقترحات الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني، فيما ركنت النخبة الأكاديمية المثقفة إلى ما يشبه الحياد السلبي والنأي بالنفس عن الخوض في مسودة دستور مرشحة لتصنيع انقسام هائل في المجتمع قبل موعد الاستفتاء، وزرع محطات مستدامة للصراع مستقبلا لو كُتب لهذه التعديلات أن تُمرَّر بما حملته من ألغام موقوتة، ناهيك عن قصورها الواضح في توليد جمهوريةٍ جديدة مؤهَّلة لإدارة الإصلاحات.

غياب نقاش وطني منظم على كبرى وسائل الإعلام الوطنية، ترك الحبل على الغارب لنشطاء الفضاء الأزرق لملء الفراغ بنقاش فوضوي منفلت العقال، منفتح على مزيد من التمزيق للإجماع الوطني، وقد علق الرأي العام بوحل الصراع العدمي حول مضامين المادة الرابعة، وصرف النظر عن بقية الألغام الدستورية التي سوف تجعل الدستور الجديد أفضل أداة لتعطيل توليد الجمهورية الجديدة، وتعويق إعادة بناء مؤسَّسات الدولة، وتأجيل الدخول في مسار إصلاحي يستند إلى مرجعية دستورية عليها إجماع.

الرأي العام القابل للقياس حصريا في وسائل التواصل الاجتماعي انقسم إلى ثلاثة معسكرات: معسكرٌ رافض بالمطلق للمشاركة أصلا في الاستفتاء، وجهة دعت للمشاركة الواسعة مع التوصية بالتصويت السلبي وبإسقاط المسودة، وفريق ثالث داعم  للتصويت بنعم على مضض مع بعض التحفظات، يلتقي فيها مع الفريق الثاني من الكتلة الواسعة التي حسمت رئاسيات 12 ديسمبر بالدعوة إلى مشاركة واسعة.

الفريق الداعي إلى المقاطعة لم يكلف نفسه عناء فتح المسودة، وتصفُّح مضامين تعديلاتها، همُّه الوحيد حرمانُ النظام من الاستثمار في نجاح الاستفتاء، والشروع في تجديد مؤسسات الدولة، مع الرهان الرابح ـ في تقديراته ـ على دستور يُمرَّر بنسبة مشاركة هزيلة تطعن في شرعيته، أو رفض واسع يُستثمَر لاحقا في تقويض الشرعية المكتسَبة منذ الرئاسيات الأخيرة، وهو فوق ذلك يستشرف مغانم كثيرة من تمرير المسودة، التي منحته ـ دون قتال ـ فوق ما كان يراهن عليه بالدعوة إلى مرحلة انتقالية، على مستوى البُعد العلماني المبثوث في المسودة، وتحصين المادة الرابعة من أي فرصة للتعديل مستقبلا.

الذهاب إلى استفتاء شعبي بمسودة فيها كثير من الارتجال، فشلت في جميع مراحل إعدادها في تحقيق الإجماع الوطني، هو رهانٌ خطير، ومجازفة تسفِّه الآمال العريضة التي نمت بعد نجاح البلد في تجاوز أزمة 2019، وقد تنشئ معارضة شعبية مستدامة للمشروع الإصلاحي الذي انتخب عليه الرئيس عبد المجيد تبون، وتنسف بالتقسيط ما تراكم له حتى الآن من شعبية متنامية، على خلفية إدارته الموفقة لأكثر من أزمة داخلية وسط مناخ دولي متأزم.

ليس من الوارد الدعوة إلى تأجيل موعد الاستفتاء، وقد حُسم بصدور مرسوم دعوة الهيأة الناخبة، وليس بيد الرئيس أن يتولى هو أو الحكومة مسؤولية إقناع الناخبين بأحد الخيارين: التصويت بـ”نعم” أم بـ”لا”، كما ليس بيد الدولة وسائل ذات مصداقية لسبر آراء الناخبين حتى تطمئنَّ إلى تحقيق الهدف الأول: وهو المشاركة الشعبية الواسعة، حتى يكون للرفض معنى، أو يكون لاعتماد النسخة شرعية كافية تغلق باب المضاربة.

غير أنه بوسع الرئيس أن يسدَّ باب الفتنة، ويمنح البلد فرصة أفضل لبناء دستور جديد على مكث، بأدوات تأسيسية مؤهَّلة لصناعة إجماع وطني واسع حول العقد الاجتماعي، وذلك بتعديل منطوق الاستفتاء: بين التصويت بـ”نعم” للتعديلات الواردة، ونص يفوض للبرلمان القادم بغرفتيه سلطة تأسيسية مسقفة زمنيا بعمر العهدة البرلمانية، يتولى فيها، إلى جانب وظيفته التشريعية التقليدية، سلطة إصدار تعديلات دستورية مؤقتة للدستور القائم تسمح للدولة بمباشرة الإصلاحات، وسلطة تأسيسية واسعة لتحرير دستور جديد، عليه إجماع واسع يُعرض بعد خمس سنوات على الاستفتاء الشعبي.

هذه الصيغة الدستورية التي يمتلك الرئيس جميع الصلاحيات لتفعيلها الآن بمرسوم، ومن دون الحاجة إلى المرور بالبرلمان، توفق بين الحاجة إلى تفعيل المادة السابعة وتعضيد مبدأ ملكية الناخب للسلطة التأسيسية، وبين مطالب مستدامة لمجلس تأسيسي، والحاجة إلى تشكيل مشهد سياسي جديد عبر المحليات والتشريعيات القادمة، يدخل فيها المتنافسون بمواقف ومقترحات واضحة حول التعديلات ذات الطابع الاستعجالي، وحول بنية الدستور الجديد الجامع لكلمة الجزائريين.

المصدر : الشروق