مأزق ملف النفط الروسي: أميركا بين فرض العقوبات وتقديم التنازلات

بقلم ريما نعمة

للحرب في أوكرانيا، وما تبعها من عقوبات اقتصاديّة على روسيا، تداعيات متعدّدة، يتمثّل أبرزها بإحداث تغيّرات في بُنية العلاقات الدوليّة، ليس فقط تلك القائمة بين روسيا والكتلة الغربية، وإنّما أيضاً العلاقات الأميركية – الخليجيّة – الإيرانية – الفنزويلية. وغنيّ عن القول إن لملف النفط دوراً أساسياً في إحداث هذه التغيرات.

في بداية الأزمة الأوكرانيّة عُدّ ملف النفط من الملفات المستثناة، أو المحيَّدة عن العقوبات الغربية، وأقرب إلى الخط الأحمر، الذي لا ترغب دول الاتحاد الاوروبي في المساس به، نظراً إلى التبعات الاقتصاديّة المترتبة على ذلك. لكن، سرعان ما تبدّل الأمر ليتحوّل إلى أحد الملفات الساخنة المطروحة على طاولة العقوبات.

بينما أعلنت واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي – وعلى خلفية قطع موسكو إمدادات الغاز لبولندا وبلغاريا بسبب رفضهما الدفع بالروبل، ومؤخراّ، إعلان شركة الطاقة الروسية غازبروم وقف إمدادات الغاز لأوروبا عبر خط نورد ستريم 1 إلى أجَل غير مسمى – تعزيزَ اتجاهها نحو حظر النفط الروسي، يستمر البحث في التداعيات المترتّبة على منع إمدادات النفط الروسي من التصدير إلى السوق العالمية، إذ تشير المعطيات إلى أنه، في حال تمّ فرض عقوبات على قطاع النفط الروسي، فثمة عجز يُقدَّر بنحو 5 ملايين برميل نفط يومياً في أسواق النفط العالمية.

كما أثّرت الحرب الدائرة في أوكرانيا في أسعار النفط عالمياً، بحيث ارتفع سعر البرميل الواحد إلى 140 دولاراً في آذار/مارس الفائت، وهو أعلى سعر له منذ عام 2008، ثم ما لبث أن انخفض إلى 94 دولاراً للبرميل في أوآخر شهر آب/أغسطس، بفعل النمو الاقتصادي العالمي البطيء، ورفع أسعار الفائدة في عدد من الدول الاقتصادية الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية. وفي حال بقيت أسعار النفط مرتفعة (ما يقارب 100 دولار للبرميل الواحد) فهذا يعني أنّ أوروبا ستدخل قريباً في حالة ركود اقتصادي. كما سيشهد الاقتصاد العالمي مزيداً من الهبوط في معدلات النمو، في وقت ما زالت الكتلة الغربية تبحث عن مصادر طاقة بديلة.

إذا كان ملف النفط الروسي ورقة ضغط تستخدمها أميركا ضد روسيا، فإنّه يضعها أيضاً أمام رهانات متعدّدة، أبرزها ضرورة إيجاد مصادر توريد بديلة للنفط الروسي، كشركات النفط الأميركية، منظمة “أوبك بلس”، فنزويلا وإيران، للحدّ من الخلل المُتوقَّع حدوثه في أساسيات السوق النفطية.

 شركات النفط الأميركية

تُعَدّ الشركات النفطيّة الأميركيّة أحد البدائل المتاحة أمام الإدارة الأميركيّة في حال تمّ استبعاد إمدادات النفط الروسي.

غير أن هذه الشركات رفضت تلبية طلب الرئيس بايدن بشأن زيادة إنتاجها، بحيث إنّها تتّجه حالياً نحو الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، وإنّ إنتاجها يغلب عليه الثبات، ومن المُستبعد أن يحقق زيادة كبيرة خلال العامين المقبلين، الأمر الذي يؤشّر على أنه في حال توقفت أوروبا عن شراء النفط الروسي، فلن تتمكن من التعويل على الوقود الأميركي، وفق ما صرّحت به صحيفة “نيويورك تايمز”.

ووفقاً لاستقصاء أجراه جهاز الاحتياطي الفيدرالي في منتصف آذار/مارس الفائت، شمل 141 شركة، أكّد 60 % من المشاركين أنّ المستثمرين يعارضون إنتاج الشركات كميات أكبر من النفط، لأن ذلك سيساهم في انخفاض أسعاره المرتفعة حالياً، وبالتالي تقليل أرباح هذه الشركات.

في الواقع، أحدث فيروس كورونا، وما تبعه من إجراءات الحَجْر الصحي، وتدني معدلات الاستثمارات، خللاً في أساسيات سوق النفط العالمية، الأمر الذي دفع كُبرى شركات النفط الأميركيّة إلى تقليص نفقاتها وتسريح العمال، في ظلّ الخسائر التي تكبّدتها نتيجة تراجع أسعار النفط الخام الأميركي، والتي وصلت إلى ما دون الصفر، في 20 نيسان/أبريل 2020.

حالياً، تتمثّل سياسات الشركات النفطيّة الأميركيّة بالمحافظة على السيولة الربحيّة المتأتّية من ارتفاع أسعار النفط عالمياً، واستخدامها في تسوية التزاماتها وسداد ديونها تجاه المؤسسات المالية، والتعويض على أصحاب الأسهم بعد الخسائر التي تكبّدوها، من دون الاكتراث لتأثيرات ارتفاع أسعار النفط في المستهلكين من الأفراد والمؤسسات، على اعتبار أنهم استفادوا من انخفاضها مسبّقاً في وقت كانت الشركات تتكبّد الخسائر.

 إن الذهنيّة الاقتصاديّة التي تحكم الأهداف والآليات لعمل هذه الشركات، تركّز على تعظيم الربح والمنفعة الفرديَّين من دون الأخذ في الاعتبار المعايير المجتمعية، وهو ما كرّسه أساساً النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي انتهجته حكوماتها المتعاقبة، وعملت على تعزيزه كالاحتكام إلى منطق السوق وآليات العرض والطلب والمنافسة الحرّة، بعيداً عن المنافع الاجتماعية.

منظمة أوبك بلس

إن توتّر العلاقات الدوليّة، والتحوُّلات المتسارعة، والمدفوعة بمجريات الحرب الاوكرانيّة الروسيّة، طالت بصورة مباشرة قطاع النفط العالمي، إذ ثمة ترجيحات ببدء تشكُّل نظام جديد للطاقة متعدد الأقطاب، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى إجراء اتصالاتها بمجموعة “أوبك بلس”، كونها تمتلك احتياطيات نفطيّة كفيلة بتعويض نقص الإمدادات الروسيّة مع نفاذ قرار فرض الغرب الحظر على النفط الروسي.

تضمّ منظمة “أوبك بلس” أكبر الدول المنتجة للنفط في العالم، وعدد أعضائها 23 دولة، بما فيها روسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات والكويت. 

وفي إطار البحث عن مصادر توريد نفطية بديلة، لجأت واشنطن إلى منظمة “أوبك بلس” بهدف زيادة إنتاجها. لكن، سرعان ما أتى ردّ المنظمة بالرفض، عقب اجتماع عُقد في 2 آذار/مارس لم يَدُمْ أكثر من 15 دقيقة، كما أبقت على زيادة بطيئة للإنتاج معتَمَدة مُسبّقاً، بمقدار 400 ألف برميل يومياً، ثم رفعتها إلى نحو 600 ألف برميل يومياً في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس.

مؤخَّراً، خلال أول اجتماع عقدته المنظمة في 3 آب/أغسطس، عقب زيارة الرئيس يايدن للسعودية، تقرَّرت زيادة إنتاج “أوبك بلس” من النفط على نحو يعادل 100 ألف برميل يومياً فقط، بدءاً من أول أيلول/سبتمبر الجاري. وهو إجراء لن يحلّ، بطبيعة الحال، معضلة الولايات المتحدة في إيجاد بدائل عن النفط الروسي.

إن “أوبك بلس” تعتقد أن الأزمة الحالية هي أزمة مصطنعة، فالمنظمة تتدخّل حين يكون هناك خلل بين العرض والطلب، في حين أن الوضع الحالي للسوق النفطية متوازن، وحجم الإنتاج اليومي يكفي لمتطلبات الاقتصاد العالمي، وخصوصاً في ظل حالة التضخم التي يعانيها. 

من جهتها، فإن الأزمة المُرجَّح حدوثها لا تتعلّق بآليات السوق، بل ناتجة من رغبة الولايات المتحدة في خنق دولة منتجة للبترول وإخراجها من السوق، وهي أساساً دولة عضو في “أوبك بلس”.

ورداً على موقف “أوبك”، الرافض طَلَبَ واشنطن، ثمة مساعٍ أميركية تُبذَل، مدفوعة من مجلس الشيوخ، لرفع دعاوى قضائية ضد المنظمة ودول متحالفة معها، بذريعة التآمر من أجل رفع أسعار النفط، بالتزامن مع استمرار الضغط على السعودية لضخ مزيد من النفط، بينما أكّدت الأخيرة التزامها اتفاقية “أوبك بلس”.

الجدير ذكره أنّ القدرة الإنتاجية النفطية لأيّ دولة من دول المنظمة غير قادرة بمفردها على تغطية خسائر البترول الروسي. فإذا كانت السعة الإنتاجية الفائضة لدى السعودية والإمارات والكويت مجتمعة نحو 2.5 مليون برميل يومياً – في حال أرادت زيادة إنتاجها – فإنها تبقى قاصرة عن تعويض النفط الروسي المقدَّر بـ 5 ملايين برميل يومياً، كما سبقت الإشارة إليه.

إن أزمة النفط المطروحة للبحث، أو الصدمة النفطية، كما يصفها البعض، شكّلت، ولا تزال، عامل ارتكاز محورياً في إبراز أيّ توتر سياسي بين دول الخليج والغرب، أو تعميقه.

تماشياً مع هذه المقاربة، يرى عدد من المحللين الاقتصاديين أن ثمة أسباباً أخرى دفعت منظمة “أوبك” إلى عدم تلبية طلب الولايات المتحدة زيادة الإنتاج، منها أن العلاقات الخليجيّة الأميركيّة شهدت، في الفترة الأخيرة، خلافات بشأن عدد من القضايا والملفات في سوريا والعراق واليمن، كما معارضتها للتوجّه الأميركي في الملف الإيراني ومفاوضات الاتفاق النووي، فضلاً عن أن دول الخليج رصدت تخاذلاً أميركياً في حماية أمنها من هجمات حركة “أنصار الله”، كالسعودية والإمارات العربية. والجدير بالذكر، أن تصريحات الرئيس الأميركي بايدن، بشأن تحجيم السعودية، قبل انتخابه وبعده، وإعلانه التقرير الاستخباريّ الأميركي الذي يزجّ بالأمير محمد بن سلمان في مقتل الصحافي جمال خاشقجي عام 2018، من الأسباب الرئيسة التي أدّت دوراً في تأجيج حدة الخلاف وتفاقمها بين السعودية وواشنطن.

وفي مسعى لإصلاح العلاقات بين السعودية وأميركا، زار الرئيس بايدن السعودية في تموز/يوليو الفائت، وشارك في قمة جدة للأمن والتنمية، غير أنّ زيارته، انطلاقاً من أهدافها المعلنة، لم تحقق نجاحاً في التوصّل إلى اتفاق بشأن مجموعة من القضايا التي تمّ طرحها، ومنها ملف النفط، إذ لم يحصل بايدن إلّا على وعود من السعودية بزيادة إنتاجها، لكن فعلياً لم يُترجم هذا الامر لغاية تاريخه، ملتزمة، أي السعودية، الزيادة التي تقررها “أوبك بلس”.

 الرهان على فنزويلا وإيران

يبدو أن الأزمة النفطيّة العالميّة تدفع الولايات المتحدة الأميركيّة إلى إعادة النظر في علاقتها بفنزويلا والعقوبات المفروضة عليها. تاريخياً، كانت فنزويلا -أهم حليف للكرملين في أميركا الجنوبية – تمثّل مورداً مهماً للخام للولايات المتحدة الأميركيّة قبل أن تتعطّل صادراتها بسبب مشكلات الإدارة المحلية، والعقوبات المعوّقة التي فرضتها واشنطن عليها، إلّا أن الامور تبدّلت الآن، بحيث دفع المشرّعون الأميركيون الولايات المتحدة إلى حظر صادرات النفط الروسي، بالتزامن مع دعوتهم إلى رفع القيود المفروضة على فنزويلا، موطن أكبر احتياطيات النفط في العالم، بواقع 304 مليارات برميل.

وفي هذا السياق، قام وفد أميركي بزيارة دبلوماسية لكراكاس من أجل البحث في إمكان رفع العقوبات عن تجارة المشتقات النفطيّة في فنزويلا، وإفساح المجال أمامها لزيادة إنتاجها بعد قطع العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين منذ عام 2019.

ويرى معظم الخبراء أن هذا الأمر غير قابل للتحقّق، أقلّه في المنظور القريب، بسبب تقادُم الصناعة الفنزويلية. فعلى الرغم من أن فنزويلا تتصدّر الترتيب العالمي، من حيث احتياطيات النفط، فإنها لم تُعرَف تاريخياً كمصدّر كبير لهذه السلعة. وتشير أرقام “أوبك” إلى أنّ فنزويلا لم تستخرج سوى 755 ألف برميل يومياً في كانون الثاني/يناير 2022، ثم تراجع الإنتاج إلى 400 ألف برميل اليوم، مسجّلاً أدنى مستوى له منذ 70 عاماً. وبالتالي، فإن الرهان على فنزويلا لتكون المنقذ لن يكون وحده مُجْدِياً.

أمّا بالنسبة إلى إيران، التي تمتلك ثالث احتياطي مثبت من النفط عالمياً، بعد أميركا والسعودية، واحتلّت عام 2020 المركز الخامس بين المنتجين ضمن منظمة “أوبك بلس”، فإنّ العقوبات المشدّدة التي فرضتها واشنطن عليها عام 2018، عقب قرارها الانسحاب من الاتفاق الدولي الخاص ببرنامج طهران النووي، حدّت قدرة إيران في مجال التجارة النفطية.

من المحتمل أن تدفع التطورات الأخيرة الولايات المتحدة، من خلال مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا، إلى تقديم تنازلات من شأنها أن تساهم في تفعيل القدرة الإنتاجيّة الإضافية لإيران على نحو يقارب نصف مليون برميل يومياً. وهو، بطبيعة الحال، لا يحقّق بمفرده توازن السوق النفطية العالمية في حال تمّ حظر النفط الروسي.

انطلاقاً مما تقدم، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة الأميركية تقع في مأزق: تريد فرض عقوبات على النفط الروسي، لكن عليها أن تجد البدائل. وحتى تحصل على البدائل، عليها أن تقوم بتسوية علاقاتها المتوترة أساساً بدول منتجة للنفط، وتقديم التنازلات إليها.

المصدر: الميادين