أنقرة و أدواتها في الشمال السوري: تصفية فصائلية إستعدادآ لمرحلة جديدة

بقلم جو غانم

لعل في بيان ما يُسمى “الفيلق الثالث”، التابع لكيان “الجيش الوطني السوري” الذي اخترعته أنقرة وشكلته عام 2019 من بقايا ما كان يُطلق عليه اسم “الجيش الحر” والفصائل والألوية والجماعات التي تعمل تحت إمرتها، والذي صدر عن قيادة الفيلق صباح يوم الأربعاء 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، ما يشرح الكثير من حقيقة ما آلت إليه الأوضاع في ميدان الشمال السوري في الآونة الأخيرة، على الرغم من صعوبة تتبع تقلبات السياسة الإردوغانية ومشاريعها الخاصة في الشمال، والتي تتطور كل عدة أيام أو أسابيع.يقول البيان إن القيادة العامة لـ”الفيلق الثالث” تؤكد أن أي اتفاق يدعو الفيلق إلى التخلي عن سلاحه والانضمام إلى “هيئة تحرير الشام” أو يفرض عليه العمل تحت ظل “حكومة الإنقاذ” في إدلب، “لا يمثل سوى تطلعات الهيئة والجولاني والجانب التركي الذي يهدف إلى حل الفيلق في وقت لاحق”.  واللافت أن قيادة الفيلق ذكرت أن “قسد” ستكون “الحليف الأول الذي سنقوم بالتنسيق معه”، وأنها ستعمل تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” في حال استمرت الضغوطات التركية على الفيلق والفصائل الحليفة له. واللافت أيضاً هو اتهام قيادة الفيلق لأنقرة وأجهزة الاستخبارات والجيش التركي على وجه الخصوص باستخدام الجولاني و”هيئة تحرير الشام” ورقة ضغط عليه وعلى باقي الفصائل. وقد لوّحت قيادته، وللمرة الأولى منذ تشكيلها، باستخدام العنف ضد الأجهزة التركية، وهددت بـ”قسد” ذاتها، التي وصفها البيان بأنها تُشكل “رعباً” لأجهزة الاستخبارات التركية.

ثمة أحداث عديدة ومهمة في دلالاتها شكلت مقدمات أفضت إلى هذا البيان الجديد من نوعه ولهجته في منطقةٍ تسيطر عليها تركيا بشكل كلي، إذ بدأ كل شيء عندما تم الإعلان عن وساطة إيرانية ومساعٍ روسية للتقريب بين دمشق وأنقرة، وما كشفته مصادر عديدة حينذاك عن بدء عقد لقاءات استخبارية بين الطرفين، ثم تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وبعض مسؤولي نظامه حول احتمال التوصل إلى اتفاق مع دمشق، وضرورة أن تتقبل فصائل وقوى المعارضة السورية أي تسوية أو اتفاق محتمل، وأن تنخرط في هذا المسعى. هذا الأمر أدى إلى خروج تظاهرات في مناطق سيطرة بعض الفصائل المسلحة في ريفي إدلب وحلب جرى خلالها إحراق العلم التركي والتهجم على نظام أنقرة الذي اتهمه هؤلاء ببيعهم والانقلاب عليهم، ثم جاء الهجوم الذي شنته قوات “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني الشهر الماضي (تشرين الأول/أكتوبر) باتجاه منطقة عفرين في الريف الحلبي، وسيطرتها على بلدات وقرى ونقاط مهمة في المنطقة، وطردها بعض الفصائل التابعة لـ”الجيش الوطني”، وعلى رأسها “الفيلق الثالث”، الأمر الذي اعتبرته بعض الفصائل بمنزلة مشروع تركي واضح بالنسبة إليها يكشف مخطط أنقرة لإضعاف قوة تلك الفصائل ونفوذها لمصلحة الجولاني الذي بدا كأن الأجهزة التركية اعتمدته وكيلاً حصرياً لمخططاتها في الشمال السوري. وقد تلا عملية الجولاني العسكرية تلك استدعاء المندوب الأمني التركي المفوض بالتواصل مع الفصائل المسلحة في المنطقة قادة تلك الفصائل إلى اجتماع في منطقة “غازي عينتاب”، كان له أصداؤه القوية التي جاء بيان “الفيلق الثالث” أحد ارتداداتها.

تقول المعلومات التي رشحت عن اجتماع “غازي عينتاب” إن المندوب التركي كان حازماً وجافاً جداً مع قادة الفصائل، وإنه جاء بأوامر محددة تقضي بوجوب أن تخرج هذه الفصائل من المدن والبلدات وتتمركز على الجبهات مع الجيش العربي السوري، وأن تتوقف عن أي نشاط اقتصادي، لأن ذلك منوط فقط بـ”الحكومة الموقتة” التي شكلتها أنقرة وترعاها، ثم أنْ تمتنع تلك الفصائل بشكل نهائي وتام عن التواصل أو التنسيق مع أي جهة خارجية من دون الرجوع إلى أنقرة. تعني هذه النقاط المحددة في الحقيقة إنهاء وضع السيطرة العسكرية والمدنية والاقتصادية لهذه الفصائل، وبالتالي نزع عناصر القوة منها تمهيداً لتذويبها في كيان تزمع أنقرة تشكيله قريباً، سيكون للجولاني الدور الرئيسي والبارز فيه عسكرياً، فيما تضطلع “الحكومة الموقّتة” بأدوار الإدارة المدنية بإشراف مباشر من “مستشارين” أتراك. واللافت هنا هو التركيز التركي على مسألة تواصل الفصائل مع الخارج، الأمر الذي يكشف مدى الغضب التركي من محاولات فصائل “الجبهة الشامية” التواصل والتنسيق مع الأميركيين خلال هجوم الجولاني على عفرين وريفها وبعده. 

وقد فهم قادة تلك الفصائل من الأوامر التركية الجديدة أن القرار اتخذ بإلغائهم تماماً وتسليط الجولاني عليهم، وخصوصاً أن المندوب التركي أعطاهم مهلة تمتد إلى نهاية السنة الحالية لترتيب أوضاعهم، والاندماج مع بعضهم بعضاً، وإنهاء حالات الخلاف والتحارب العسكري والتنافس على “الغنائم” الاقتصادية التي يحصلونها من موارد البلاد الزراعية والنفطية التي تشتهر بها أرياف إدلب وحلب، والجبايات الضريبية التي تُفرض على السكان في تلك الأنحاء لتمويل الفصائل، والاستعداد للأمر النهائي القاضي بتشكيل إدارة مدنية موحدة في تلك المناطق تنهي حال الوجود الفصائلي في المدن والبلدات، وتكون الجهة الوحيدة التي تسيطر على المؤسسات المدنية والاقتصادية وتنفذ أوامر أنقرة وتسهر على تنفيذ تعليماتها.بالتوازي مع هذا كله، استمر الطيران السوري والروسي على مدى الأيام العشرة الأخيرة بشن هجمات يومية على مواقع المجموعات المسلحة في ريفي إدلب وحلب، كان لمواقع تنظيم “هيئة تحرير الشام” الإرهابي النصيب الأبرز منها، الأمر الذي أدى إلى وقوع عشرات القتلى والجرحى بين صفوف المسلحين، وخصوصاً خلال القصف الصاروخي الذي نفذه الطيران الحربي السوري في السادس من هذا الشهر تشرين الثاني/أكتوبر، والذي استهدف معسكراً للهيئة وورشة لصناعة الطائرات المسيرة، وهي العملية التي أفضت إلى مقتل أكثر من 50 مسلحاً وسقوط عشرات الجرحى، بينهم قادة في التنظيم الإرهابي.

وبالتزامن أيضاً مع ذلك، ما تزال المساعي جارية على خط الوساطة بين دمشق وأنقرة، والتي يبدو أنها تسير بخطى ثقيلة نحو بعض الانفراجات. يظهر ذلك من خلال بعض المعطيات على أرض الواقع، إذ أوقفت الأجهزة الأمنية السورية طلبات الاستدعاء والمراجعة الخاصة بالسوريين الذي يحملون الجنسية التركية لدى عودتهم إلى البلاد.كما بدأت الحكومة السورية خطوات حثيثة لإعادة الخدمات الأساسية إلى بعض المدن والبلدات في ريفي إدلب وحماه، والتي من المفترض أنْ يبدأ أهلها النازحين بالعودة إليها، خصوصاً أن السلطات التركية أبلغت من جهتها جميع الفصائل المسلحة في منطقتي ريف إدلب وريف حلب بالتوقف عن مضايقة الأهالي الراغبين في العودة ومنعهم من ذلك، وهي خطوات يُفهم منها أن تفاهمات أمنية سورية تركية تحققت أو في طريقها إلى التبلور أكثر. ويُفهم أن موضوع اللاجئين وإعادتهم إلى سوريا هو أهم ما يشغل بال إردوغان قبل الانتخابات الرئاسية التي ستحصل العام القادم، وأن الجانب التركي يجد من مصلحته التعاون مع دمشق لتحقيق هذه الأهداف، مع الإبقاء على مخاوفه التي تتعلق بالكرد و”قسد” ووجودها قرب الحدود التركية.

ويبدو أن هذا الملف أيضاً يشهد بعض النشاط من جانب دمشق وموسكو، إذ تفيد المعلومات الواردة من الشرق السوري بأن الوسيط الروسي يسعى مع القيادات الكردية للوصول إلى صيغة تسوية مع دمشق تكون بوابة رئيسية للدخول في تسوية كبرى مع أنقرة، وتقضي بالضرورة بتسليم “قسد” لجميع مواقعها القريبة من الحدود التركية في أرياف حلب والرقة والحسكة، ما يُحقق في النهاية المطلب السوري الأساسي، وهو خروج القوات التركية المحتلة من الأراضي السورية كخاتمة لأي تسوية شاملة قادمة. وفي هذا المسار، تتواصل دمشق مع أحزاب وشخصية كردية وعربية في الشرق السوري، لتشكيل حالة ضغط جديدة على “قسد”. والواقع أن هذا الملف يسير حتى الآن على النحو الذي تريده دمشق. وقبل بيان “الفيلق الثالث” بساعاتٍ فقط، كان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قد صرح بأن بلاده ستقوم بتقييم الموقف من التطورات الأخيرة على مستوى العلاقات التركية السورية، وسترى ما إذا كانت البيئة قد أصبحت مناسبة لرفع مستوى الاتصالات الحالية، وانتقالها من مرحلة الاتصالات بين أجهزة الاستخبارات في البلدين إلى مرحلة التواصل الدبلوماسي.  هذه التصريحات تُنبئ بتطورات إيجابية على هذا المسار، غير أن دمشق بقيت حتى اللحظة في موقِع الحذِر من سياسات إردوغان ووعوده وتفاهماته، وهي تضع كل الاحتمالات، بل أسوأها، على الطاولة، نظراً إلى انعدام الثقة بالرجل. لذلك، أبقت القيادة السورية حشودها العسكرية على جبهات أرياف إدلب وحماه وحلب والرقة والحسكة في حال استنفارٍ تام، فيما يبقى الطرفان الروسي والإيراني على نشاطهما على مسار الوساطة التي قد تُفضي إلى نتائج مهمة قريبة قد تُعلن خلال اجتماع أطراف “منصة أستانة” الذي من المتوقع أنْ يُعقد بين 22 و23 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.

المصدر : الميادين