دور “القوة الناعمة” في العلاقات الدولية: التجربة الروسية وآفاق انتشارها
بقلم ديمتري بوليكانوف ـ نائب رئيس مؤسسة “التعاون الروسي”
أصبحت قضية “القوة الناعمة” واحدة من أهم في القضايا في واقع العالم المعاصر وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم. لقد بدأ القرن الجديد العد التنازلي الحقيقي مع جائحة كورونا في عام 2020، التي يسميها الكثيرون بالوباء المعلوماتي من حيث تأثيرها على المجتمعات.
بموزاة ذلك تواصل الإنسانية ابتعادها أكثر فأكثر عن أنماط الحياة التي كانت مألوفة في القرن العشرين، بينما تشير الأوضاع الحالية لدور يتزايد بشكل سريع للمعلومات في حياة كل إنسان على وجه الأرض.
إن انتشار تقنيات المعلومات، والفجوة المتزايدة في تصورات الأجيال عن الوضع الحالي والمستقبل، وتعزيز عنصر القيم الإنسانية، وتوجه الأعمال التجارية إلى التأقلم مع ظروف “اقتصاد التجربة”.. كل ذلك يعزز أهمية التعاون الإنساني، واستخدام الأساليب غير العسكرية، لتعزيز السياسة الروسية وتعزيز نهجها.
فالمعارك الرئيسية اليوم لا تدور في ساحات القتال، ولكن في نشرات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي المجموعات التي توحدها مصلحة خاصة في موضوع ما، وتعطي إحساساً واضحاً بالتعرف على “الصديق أو العدو”، أي، بمعنى آخر، في وعي وأذهان الناس.
لهذا السبب، وبالنظر إلى العملية العسكرية الخاصة التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا، فإن تطوير أدوات “القوة الناعمة” مسألة في غاية الأهمية. فروسيا، التي تخوض “معركة الخير ضد الشر” في أوكرانيا وضد الغرب، لا يمكنها ببساطة أن تتجاهل “مجالات حرب الأدمغة”، حيث لا تزال نجاحاتها في البلدان الأخرى متواضعة للغاية.
يبدو أن السياسة “الإنسانية” لروسيا يجب أن تقدم رداً على هذا التحدي، لا سيما بالنظر إلى طموحاتها كأحد المراكز المؤثرة في العالم متعدد الأقطاب. وحتى إذا نظرت إلى العلاقات الدولية من منظور المواجهة ثنائية القطب بين الصين والولايات المتحدة، فيجب أن تصبح “القوة الناعمة” أداة للمناورة ومورداً لزيادة رأس المال السياسي للاعبين الثانويين.
ومع ذلك، فإن هذا لا يحدث في الواقع – فالتأثير الإنساني وقضايا الترويج لصورة إيجابية (أو موضوعية- كما أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف) لروسيا في الخارج، بعيدة كل البعد عن أولويات سياسة الدولة. إن فكرة “الدعاية الروسية” التي تضخمها وسائل الإعلام الغربية لا علاقة لها بالواقع.
إن غياب “توجه الدولة” نحو الإستثمار في “القوة الناعمة” يؤدي إلى تقليص أموال الميزانية المخصصة لهذا المجال، إلى جانب أن عدم التنسيق بين مؤسسات الدولة المعنية بالأمر، وغياب الأهداف الواضحه لكل مجال من المجالات الرئيسية “للقوة الناعمة” سيؤدي بدوره إلى هدر الإمكانيات المالية المتواضعة أصلاً.
لطالما كانت روسيا قوية وجادة في تحديد “الخطوط الحمراء” ومقاربة السياسات التي لا تناسبها كمركز عالمي للقوة. لكن التركيز كان بشكل رئيسي منصب على الحفاظ على إنجازات الماضي، ومواجهة التقليل من قيمتها، وبناء سلسلة منطقية متينة من تعاقب العظمة – من الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفياتي وروسيا الحديثة.
بالنظر إلى الزيادة السريعة لنسبة الشباب في البلدان النامية التي تشكل أهمية لروسيا، كما هو الحال في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية والوسطى، والتي ستحدد بدورها العمليات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، فقد بات واضحَاً أن المقاربة الروسية لمفهوم “القوة الناعمة” تحتاج إلى تعديل. إذ ترغب معظم هذه (الشرائح) بالنظر إلى روسيا كدولة مليئة بالفرص، وتريد أن تفهم كيف يمكن أن تكون مفيدة لتطورهم الوظيفي ورفاههم، وما هو المنتج الثقافي الذي يمكنها أن تقدمه.
لحسن الحظ، بدأت في العامين الماضيين عملية تشكيل مثل هذه الصورة لروسيا، والتي تجلت من خلال استراتيجية الأمن القومي المحدثة، والتي صاغت لأول مرة بشكل علني 17 قيمة روحية للشعب متعدد الجنسيات في بلدنا، وكذلك أساسيات سياسة الدولة للحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية وتعزيزها، وثبتت مفهوم التوجه الإنساني لسياسة روسيا الخارجية.
نحن نتحدث، من بين أمور أخرى، عن دولة ملتزمة “بمبادئ المساواة والعدالة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”، وعلى استعداد “للتعاون متبادل المنفعة دون شروط مسبقة”، وتعترف بـ”الهوية الوطنية والثقافية والقيم الروحية والأخلاقية التقليدية للمجتمعات، كأعظم إنجازات البشرية وتعتبرها أساساً للتطور الناجح اللاحق للحضارة الإنسانية”.
أما الخطوة التالية فيجب أن تكون بث هذا المحتوى المتراكم إلى الجمهور الأجنبي. ولكي يتحول ذلك إلى تأثير حقيقي، من الضروري تحديد الخطوات والأهداف بوضوح، وترجمتها إلى الواقع.
حتى الآن، لا زالت لدى المؤسسات الروسية المعنية بالأمر إجابات مختلفة على هذه الأسئلة، لكن اللاعب الرئيسي الذي يضمن تنسيق جميع الأنشطة على المستوى الدولي هو، بالطبع، وزارة الخارجية، بالإضافة إلى الإدارة التي تشكلت حديثاً للعمل في مجال التعاون الإنساني متعدد الأطراف والعلاقات الثقافية.
كما أن للسفراء الروس دورهم وفكرتهم الخاصة حول أدوات “القوة الناعمة” وتطبيقها. وفي الوقت الذي لاتزال فيه الإدارات الجديدة تحتل مكانة منخفضة للغاية في التسلسل الهرمي لأولويات البعثات الروسية في الخارج، فإن الأولوية والأفضلية هنا لا تزال ممنوحة للجمعيات التي تم اختبارها عبر الزمن، مثل جمعيات الصداقة وجمعيات خريجي الجامعات الروسية والسوفياتية والجاليات الروسية في الخارج.
في كل الأحوال، يبقى العامل الرئيسي لـ “القوة الناعمة” مؤسسة “روس سوترودنيشيستفا” (التعاون الروسي)، التابعة لوزارة الخارجية، والتي تتميز بكونها شبكة واسعة من المكاتب التمثيلية في الخارج. وعلى الرغم من العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والطرد الجماعي للدبلوماسيين، يتم تنفيذ عمل ضخم من قبل هذه المؤسسة في 74 دولة في 12 مجالاً – من بينها الترويج للثقافة والتعليم الروسيين، والعمل مع المواطنين والشباب والمنظمات غير الحكومية.
سيزداد توسيع النفوذ الإنساني الروسي في المستقبل هذا العام بمقدار خروجنا من الأزمة الجيوسياسية العالمية. لقد استنفدت تقريباً كل فرص تحسين النظام العالمي الحالي، والقيام بعملية “إصلاح تجميلي” له. في الوقت نفسه، تتمتع “القوة الناعمة” الروسية بإمكانيات كبيرة، يمكن تحقيقها إذا كان هناك تحديد واضح للأهداف، وتنسيق داخل القطاع العام، وبين الشركات والمنظمات غير الحكومية، وإدخال أساليب جديدة للعمل مع الجماهير في البلدان التي تهمنا. يبقى فقط إطلاق هذه العملية التي تتطلب جهوداً طويلة الأمد ومضنية.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني
المصدر : الميادين