حول تقرير المصير الحضاري لروسيا وسقوط نظرية التوجه نحو أوروبا
بقلم ألكسندر كرامارينكو ـ سفير روسي مفوض فوق العادة
لا يسع المرء إلا أن يندهش من أن التدهور الحالي في علاقاتنا مع الغرب وموقف روسيا كـ “دولة حضارة أصلية” في النسخة الجديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية، كانا ضروريين للاهتمام والعمل على ملف تقرير المصير الحضاري للبلاد.
يجب أن يكون واضحاً، أن التعددية القطبية التي ندافع عنها منذ أكثر من 20 عاماً، بدأت تعكس وتعبر عن التنوع الثقافي والحضاري للعالم، الذي قمعته منذ قرون الهيمنة العالمية للغرب. وبدون ذلك، لا يمكننا أن نفهم سبب تصرف النخب الغربية بشكل غير عقلاني (على عكس ثقافتهم العلمانية وفهمهم للعقلانية!)، وعدم رغبتهم بدمج روسيا الجديدة في المجتمع الغربي، وإشراكها في النظام العالمي الجيوسياسي الذين يسيطرون عليه.
تكمن المشكلة في أننا على مدى 3 قرون على الأقل ربطنا أنفسنا بأوروبا، معتقدين أن هناك حضارة أوروبية ونحن أحد فروعها. كان هذا النهج من سمات كل من القوة الاستبدادية في القرن التاسع عشر والقوة السوفياتية في القرن العشرين.
بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، نشأت قواسمنا المشتركة مع أوروبا، من بين أمور أخرى، من جذور مسيحية مشتركة. على الرغم من أنه لا ينبغي أن ننسى أن المسيحية هي ديانة شرقية، وأن الغرب، قد تغلب على العهد الجديد من خلال الإصلاح – في ضوء الحاجة إلى تقديس الرأسمالية الأنجلوسكسونية، بينما المسيحية تتطابق تماماً مع البنية العقلية للشعب الروسي.
لذلك، انطلق المجتمع كله من حقيقة أننا أوروبيون، ولم تكن هناك أي مناقشات عملياً حول الوضع الحضاري لروسيا، رغم المشاركة الحاسمة في السياسة الأوروبية، كتحرير أوروبا من نابليون، ثم من هتلر. في ظل هذه الخلفية التاريخية، كان من المنطقي الافتراض أنه يمكننا “الاندماج” في أوروبا وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لأننا تخلينا عن الأيديولوجية المعادية للغرب وعن سلاحنا الأيديولوجي.
لقد شكل قرار توسيع الناتو في عام 1994 بداية مواجهة جديدة مع روسيا، و”الطلقة الأولى” التي أطلقها الغرب ليظهر أنه متحد، وأن الناتو والاتحاد الأوروبي وجهان لعملة واحدة.
ليس هناك شك في أنه بعد أن عرفنا أنفسنا وفهمنا اختلافنا عن الغرب، سنكون قادرين على بناء استراتيجية تنميتنا بشكل هادف، تجعلنا نشعر بالثقة في التعامل مع العالم الخارجي.
بادئ ذي بدء، يجب أن نعترف بأننا لم نواجه ولا نواجه خياراً بين أوروبا وآسيا. هذا اختيار خاطئ، ولا داعي للخوف من أن البديل لأوروبا هو الوقوع في “الآسيوية”. لرؤية ذلك ولعدم اتباع منطق “عبء الرجل الأبيض”، فقط انظر إلى الصين والهند – دولتان – حضارتان أخريان، حيث مركز النمو الاقتصادي العالمي، الذي وقع في منتصف القرن التاسع عشر تحت وابل المدافع الغربية.
بالطبع، لا مجال للتخلي عن الجزء الأوروبي من التراث التاريخي، الذي تولى قيادة أفضل ما في الثقافة الأوروبية، ليس فقط في الأدب والموسيقى، ولكن أيضاً من حيث الأفكار والتوجه الإنساني للتنوير، من المثل العليا التي ابتعد عنها الغرب، واستبدلها بخلق إمبراطوريات استعمارية تتبع نفس الغرائز في إدارة السياسة الأوروبية (الحروب الدينية، حروب نابليون والحربين العالميتين).
وليست هناك حاجة للاستشهاد بآراء المفكرين والسياسيين الغربيين حول الاختلاف بين روسيا وأوروبا – فهناك الكثير منهم: من دي كوستين إلى بسمارك. وقد أثبت التاريخ نفسه أن روسيا لعبت دوراً فريداً في مصير أوروبا والعالم، لا يمكن لأحد أن يلعبه. وهذا على الرغم من أننا لم ندعي مطلقاً (باستثناء البلشفية في موضوع الإيمان بالثورة العالمية) التفرد. فقد كتب المؤرخ العسكري البريطاني ماكس هاستينغز، في سياق الذكرى السبعين للانتصار على ألمانيا النازية، عن “صمود الروس وتميزهم في التضحية بالنفس”، والتي “لا يمكن العثور عليها في الديمقراطيات الغربية”. ألا يتعلق الأمر بالاختلافات الثقافية والحضارية؟
كما يكفي الاستشهاد برأي أوزوالد شبنجلر، المذكورفي كتابه “انحدار العالم الغربي”، حيث كتب أن “أوروبا عبارة فارغة”، أي الغرب وروسيا بالمعنى الثقافي والحضاري.
ومع ذلك، وبدلاً من الحفاظ على أفكارنا حول أوروبا مع موطئ قدم طبيعي، قمنا بربطها، إذا جاز التعبير ، بذيل الغرب.
يبدو أن فترة عمليات البحث هذه قد انتهت. والآن، في عصر الأسئلة الكبيرة التي تحتاج إلى حل، لم يعد بإمكاننا تأجيل تقرير المصير الثقافي والحضاري إلى وقت لاحق.
لقد أصبحت مقولة “الاندماج في الغرب” تعني في الواقع إدامة الهيمنة الغربية ومشاركتنا في السطو الاستعماري الجديد للعالم غير الغربي. هل تاريخنا كله مبني على هذا؟ ماذا ستكون روسيا إذن – بلد يتخلى عن ماضيه المجيد، وخائن فيما يتعلق بالإنجازات والمعاناة والضحايا لعشرات الأجيال من الشعب الروسي؟
من الضروري استئناف دراسة القضية من المكان الذي توقف فيه أسلافنا: نيكولاي دانيلفسكي وفيودور تيوتشيف وكونستانتين ليونتييف وفيودور دوستويفسكي وليف غوميلوف، والتفكير في مسار روسياـ وعدم نسيان أنهم تنبأ بانهيار البنية الاجتماعية والثقافية الاستهلاكية في روسيا والاتحاد السوفياتي والغرب.
إن النازية، التي أعيد إحياؤها في أوكرانيا وأعيد تأهيلها بأثر رجعي في الولايات المتحدة وأوروبا، لا يزال من الممكن اعتبارها ذروة الأخيرة. ألا يكفي حقاً أن يكون لدينا مثل هذا الكشف عن الذات والتوقف عن اعتبار أنفسنا أوروبيين.
نعم، اعتقدنا أن الغرب يتحول مثلنا تماماً. لكنه أثبت الآن عدم توافقه مع الثقافات والحضارات الأخرى، وعدم قدرته على بناء حوار على أساس متفق عليه، وليس بشروطه المفروضة على الآخرين. في المقابل، يبدو أن التوافق الثقافي والحضاري هو أهم ميزة لروسيا. وبالتالي، سندافع عن آرائنا، التي تعارض بشكل أساسي طريقة وجود الغرب في المجتمع العالمي الواسع.
فهل نحن على نفس المسار مع أوروبا التي تتغلب على نفسها؟ هل نحن على نفس المسار مع الولايات المتحدة، حيث كان هدف السياسة التدميرية للنخب الليبرالية المتطرفة هو أميركا البيضاء الأصلية مع القيم التقليدية والإيمان وفق تصوراتهم الضيقة؟
لقد بات الوصل إلى معركة المشاركة في تخطيط السياسة الأوروبية والعالمية أمراً حتمياً وملحاً للدفاع عن حقنا في الوجود. وحتى لو تم استخدام ثمار انتصاراتنا إلى حد كبير من قبل بعض الشركاء الغربيين، فلا شك في أن تاريخ الغرب بدون مشاركتنا كان سيكون مختلفاً، وعلى الأرجح، حزيناً، إذا حكمنا على الأقل حتى من خلال الاتجاهات الحالية في تطوير الغرب لنظرية “ما بعد الإنسانية” و”الحتمية البيولوجية.”
وبالتالي، فإن حق تقرير المصير الثقافي والحضاري لروسيا قد طال انتظاره وأصبح حاجة ملحة. إنه ضروري لأصدقائنا وأعدائنا، ولكن قبل كل شيء ضروري لأنفسنا. لقد رفع النصر العظيم في الحرب العالمية الستار عن هذا اللغز بالنسبة لنا. فهل سيقربنا أولئك الذين يقاتلون في أوكرانيا من الكشف عنه؟ يجب أن يصبح هذا التوجه التاريخي مشروعاً متعدد الإتجاهات، ومشروعاً عاماً، بمشاركة عامة الناس، مع نقاش في مساحة الوسائط المتعددة. وأخيراً، يجب أن نعرف من أين أتينا ومن نحن وما معنى وجودنا في هذا العالم في الظروف التاريخية الراهنة.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني
المصدر : الميادين