حبيب راشدين يفضح غياب ثقافة الحوار

رقصة الدراويش في حوار يفتقر إلى ثقافة الحوار

بقلم حبيب راشدين

أخيرا تحرَّك القطار المعطل للجنة الحوار والوساطة، بالإعلان عن الشروع في التواصل مع بعض الفعاليات من الحَراك، قبل توسيع المشاورات لتشمل أغلب ولايات الوطن والهجرة، في خطوةٍ عملية جاءت بعد أسابيع من الدوران في حلقةٍ مفرغة، وخضوع اللجنة لمشاغبات صبيانية من بعض أعضائها، ومن بعض الجهات التي ترفض الحوار وهي تضمر إطالة عمر الأزمة.

منذ خطاب رئيس الدولة المؤقت الذي نقل “كرة النار” من ساحة السلطة إلى ساحة الحَراك والطبقة السياسية، كان المؤمل أن تتدافع القوى الداعية إلى التغيير بمبادرات بديلة، ليس فقط من جهة ترشيح شخصياتٍ توافقية لإدارة الحوار، بل الإسراع بعرض ورقات عمل لأي حوار وطني قادم، قد وضعت له الرئاسة جدول أعمال من بند واحد: إعداد أفضل الشروط لتنظيم الرئاسيات القادمة، وحمايتها من تهمة التزوير، مع استعداد السلطة القائمة للتجاوب مع أي مقترَح يساعد على مراجعة قانون الانتخابات وتشكيل هيأة مستقلة لتنظيم الانتخابات.

إنفاق اللجنة قرابة أربعة أسابيع في اللف والدوران داخل حلقةٍ مفرغة، واستسلام بعض أعضائها لضغط الشارع، وتوحُّل جانب من المعارضة في مشاغبة حمقاء، تقاول في الوقت بدل الضائع لنفس المسار العبثي الداعي إلى هدم ما بقي من مؤسسات الدولة، هو صورة مصغرة لما كان سيقع في البلاد لو أنها استسلمت لمنطق إدارتها بمرحلة انتقالية خارج ضوابط الدستور.

نفس المشاغبة التي تتعرض لها اليوم اللجنة، والطعن في أعضائها، والمزايدة في قائمة الشروط المسبقة، كانت ستتضاعف بوتيرة هندسية ليتحول الحوار الوطني إلى حلبة صراع لتقسيم الريع بعيدا عن أحكام الصندوق، وما يخوله الدستور للناخب في المادتين السابعة والثامنة.

وبين أيدينا نموذجٌ قريب في التجربة السودانية التي قادها طرفا النزاع إلى حمام دم فظيع قبل التوافق على مرحلة انتقالية مفتوحة، بإعلان دستوري مبتذَل، صيغ داخل غرفة مغلقة تحت إملاءات خارجية، لا أحد يعلم يقينا كيف سيُصلح ما أفسده النظام الذي لم يسقط، وقد قبل به الحَراك شريكا بالمناصفة في إدارة المرحلة الانتقالية المفتوحة المعرضة للانتكاس في أيِّ لحظة.

أمام لجنة الحوار وما بقي من الطبقة السياسية ومن يسوِّق نفسه وصيّا على الحَراك حسنُ تقدير الموقف، والبناء عليه لتحقيق واحد من أعظم مكاسب الحَراك الشعبي، بتسليح البلد بقانون انتخابات عصري، يحيِّد الإدارة، ويحرمها من فرص العبث بالمسارات الانتخابية، وبناء هيأة مستقلة لتنظيم الانتخابات تعيد ثقة الناخب في المسارات الانتخابية القادمة.

وإذا كان لا بد أن نثمّن هذا المكسب، فلنثمّنه في ضوء ما تحقق في الحَراك التونسي الذي يُسوَّق اليوم كنموذج ناجح، حيث لم يخرج التوانسة من “ثورتهم المخملية” المكلفة سوى بهذا الانجاز الوحيد، الذي سمح لهم في السنوات السبع العجاف الماضية بإدارة أكثر من استحقاق انتخابي اطمأنَّ إليه الناخب، حتى وإن كان قد سمح لكثير من فلول النظام السابق بالعودة تحت أكثر من “طاقية إخفاء” لإعمار قلب السلطة.

يقيناً سوف نحتاج مثلهم إلى سنوات من اختبار النخب السياسية، عبر أكثر من مسار انتخابي، قبل أن نوفق في حسن منح الوكالة لمن هو أهلٌ لها، وقد لا نوفق في حسن اختيار الرئيس القادم، أو في تجديد بقية مؤسسات الحكم، لكننا نكون على الأقل قد جرَّدنا النخب السياسية من حجة الطعن الأخرق في نتائج الانتخابات، وهو أعظم مكسبٍ يضع التجربة الديموقراطية على السكة السليمة، ويمنح فرصة حقيقية لتجسيد المادة السابعة وملكية الناخب للسلطة التأسيسية، وما سوى ذلك هو محض تفصيل موكول لاجتهاد النخب السياسية وقدرتها على التنافس والإقناع

المصدر الشروق