هل يُطلب من شعبٍ أن يختار شكل المشنقة؟!

بقلم: كمال فاضل

تلوِّح بعض العواصم النافذة، وفي مقدمتها واشنطن، بدفع مجلس الأمن إلى تبنّي توصية تُلزم طرفي النزاع، جبهة البوليساريو والمغرب، بالتفاوض على أساس ما يُسمّى “مبادرة الحكم الذاتي” المغربية، باعتبارها الإطار الوحيد لتصفية الاستعمار من الصحراء الغربية.

هذه الخطوة تُعدّ سابقة قانونية وسياسية خطيرة، لأنها تحاول إغلاق أفق تقرير المصير وتحويل قاعدة إنهاء الاستعمار بجرة قلم دون الرجوع إلى الشعب المعني.

إنها مناورة صريحة لتمكين النظام المغربي من تحقيق أحلامه التوسعية، وإنجاز ما عجز عن فرضه بقوة السلاح طيلة العقود الخمسة الماضية. توصية كهذه تُشرعِن الاحتلال وتُكافئ العدوان، وتشكل انتهاكًا صارخًا لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي، فضلاً عن كونها تضرب الشرعية الدولية عرض الحائط.

لا يمكن لمجلس الأمن أن يقرّ الحكم الذاتي كأساسٍ جادٍّ للمفاوضات، أو أن يدعو الأطراف إلى ترتيباتٍ لا تُفضي إلى تقرير مصيرٍ حقيقي للشعب الصحراوي؛ فالمجلس، رغم ولايته الواسعة في صون السلم والأمن الدوليين، لا يملك تفويضًا لإعادة كتابة ميثاق الأمم المتحدة أو الالتفاف على قواعد القانون الدولي.

المادة 24(2) من ميثاق الأمم المتحدة تضع قيدًا دستوريًّا واضحًا: يتصرّف المجلس “وفقًا لمقاصد ومبادئ الأمم المتحدة”. ومن صلب هذه المقاصد ما نصّت عليه المادة 1(2) من الميثاق: “حق الشعوب في تقرير مصيرها”. المسألة إذن ليست قرارًا سياسيًّا، بل حدًّا قانونيًّا لا يجوز تجاوزه.

إن تحويل “الحكم الذاتي” إلى نتيجةٍ نهائيةٍ مفروضةٍ سلفًا، بدل أن يكون خيارًا مطروحًا ضمن عملية تقرير المصير، يعني قلب القيم التي تأسست عليها الأمم المتحدة، بحيث تصبح مصالح بعض الدول غايةً تُبرّر تجميد الحقوق.

منذ القرارين 1514 و1541 للجمعية العامة، ومرورًا بمسار تصفية الاستعمار الذي أنشأ عشرات الدول الحديثة، ظلّ معيار الشرعية ثابتًا: اختيارٌ حرٌّ وحقيقي لأهل الإقليم تحت إشرافٍ دولي نزيه، هكذا كان الأمر في ناميبيا وتيمور الشرقية وإريتريا، وحتى في جنوب السودان.

لم يُطرح الحكم الذاتي يومًا بديلًا عن هذا الحق، ولم تُجِز الأمم المتحدة لأي جهة فرض الاستسلام على شعبٍ له الحقّ في تقرير مصيره.

أي قرارٍ يتبنّى ما يُسمّى “الحكم الذاتي” كحلٍّ وحيد، يخرق منطق تصفية الاستعمار ويضع مجلس الأمن في تضادٍّ مع السوابق التي أسّست مصداقيته، فقد أكّد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية ناميبيا عام 1971 أن المجلس مُلزَم بالمقاصد والمبادئ المنصوص عليها في الميثاق، وأن إلزامية قراراته مشروطة بعدم تجاوز تلك الحدود.

بالنسبة للصحراء الغربية، تبقى النتيجة المشروعة الوحيدة هي عملية تؤدي إلى اختيارٍ حرٍّ للشعب الصحراوي، استقلالًا أو اتحادًا أو أي ترتيبٍ آخر نابعٍ من إرادةٍ غير مُكرَهة. أمّا أن يُحصر النقاش في سقفٍ واحدٍ مسبق هو “الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية”، فذلك ليس تفاوضًا، بل طلب للاستسلام. وفي السياسة كما في الأخلاق، لا يُعقل أن يُستدرَج شعبٌ للتفاوض حول لون أو شكل الحبل الذي سيُشدّ على عنقه.

جبهة البوليساريو، بحسب بيانها التأسيسي وقانونها الأساسي، حركةُ تحريرٍ وطنيٍّ تقود كفاح الشعب الصحراوي من أجل الحرية والاستقلال. ومن ثم، فإن دعوتها إلى التفاوض على خيارٍ يُلغي الاستقلال يضعها خارج سبب وجودها؛ فهي لا تملك الحق في التنازل عن حقٍّ الشعب الصحراوي غير القابل للتصرُّف، كما لا يملك مجلس الأمن الحق في أن يفرض عليها القيام بما يخالف جوهر تمثيلها، فوجود الجبهة نفسه مرتبط بتصفية الاستعمار من الصحراء الغربية، وإذا تخلّت عن ذلك، تخلّت عن مشروعيتها.

تمرير توصيةٍ تُسوِّق “الحكم الذاتي” كحلٍّ وحيدٍ للصحراء الغربية لن يقتصر أثره على هذه القضية وحدها، بل سيفتح الباب أمام أطرافٍ أخرى في نزاعاتٍ مماثلة لتجاوز القانون؛ فإذا كان بالإمكان “تسليف الشرعية” قبل اكتمال شروطها، فما الحاجة إلى الاستفتاءات وإلى الترتيبات الدولية التي تحمي الحقوق؟ عندها لن يكون مجلسُ الأمن حارسًا للقواعد، بل صانعًا لوقائع مفروضة بالقوة.

المجلس ليس مشرّعًا أعلى من الميثاق. وظيفته أن يفعّل أدواته لتهيئة طريقٍ نزيهٍ إلى تقرير المصير، لا أن يُغلق الطريق ويمنح ختم “الحل الواقعي” لصيغةٍ أحادية. أي قرارٍ يفرض الحكم الذاتي كخيارٍ نهائيٍّ يتجاوز حدود المادة 24(2) ويصطدم صراحةً بمقاصد المادة 1(2).

وإذا تمادى مجلس الأمن واعتمد المشروع الذي تقدّمه “مجموعة أصدقاء المغرب”، فسيفقد ما تبقّى من مصداقيته.

لم تعتمد الأمم المتحدة قطّ الحكم الذاتي بديلًا عن ممارسة حق تقرير المصير، وفرضُهُ كخيارٍ وحيدٍ سيُمثّل انحرافًا غير مسبوقٍ عن مبادئ القانون الدولي وممارسات المنظمة منذ 1945.

حين يتعلّق الأمر بحق تقرير المصير، لا يملك مجلس الأمن ترف المناورة بالكلمات؛ فإمّا أن يحمي الميثاق الذي أنشأ شرعيته، أو يكون هو أول من يدوس على الأساس الذي أُقيم عليه نظام السلم والأمن الدوليين.

فالطريق لحل القضية الصحراوية واضح: على مجلس الأمن أن يدعم عمليةً صادقة تُفضي إلى اختيارٍ حرٍّ يمكّن الشعب الصحراوي من تقرير مصيره، لا تسويةً مُعلّبة تُباع على أنها واقعية.