خيارات السلطة الفلسطينية في مواجهة قبضة “الصهيونية الدينية”
بقلم محمد جرادات
تمخضت اتفاقيات نتنياهو الائتلافية مع زعماء “الصهيونية الدينية”، تسليمهم ملفَي القدس والضفة الغربية، في الوقت الذي امتنع فيه عن منحهم حقيبة الأمن (الدفاع)، وأفرغ هذه الحقيبة من الصلاحيات الحساسة المتصلة بالضفة الغربية، ووضعها في حرز سموتريتش الذي سيكون وفقها سيد الموقف في الضفة الغربية من دون منازع، في وقت اتفق فيه مع بن غفير على توسيع صلاحيات وزارة الأمن الداخلي، بما فيها الأمن في القدس والمسجد الأقصى.
وينص اتفاق نتنياهو وسموتريتش على تسليم الأخير أهم وحدتين عسكريتين في الضفة الغربية، وهما “نسيق أعمال الحكومة في المناطق” و”الإدارة المدنية”، عبر إخراجهما من النيابة العسكرية، وتشكيل دائرة قانونية خاصة بهما، بحيث يُعَيّن فيها خبراء قانون موالون لسموتريتش، مع تعيين أوريت ستروك وزيرة للمهمات القومية، وهي أول وزارة بهذا الشكل والمضمون، وسيكون جانب من صلاحياتها على حساب وزارة الأمن، وستكون مسؤولة عن “دائرة الاستيطان” و”النوى التوراتية”.
ويعني تفتيت صلاحيات وزارة “الجيش” خروج الضفة الغربية عن دائرة الحكم العسكري، لمصلحة هيئات مدنية من قبل الحكومة، خصوصاً عندما يتولى زمام هذه الهيئات مسؤولون من غير ضباط “الجيش” كما هو قائم، بما يعني غياب أولوية وذريعة البعد الأمني في الضفة، لمصلحة السيطرة اليهودية على حساب المواطن الفلسطيني العادي.
تأتي هذه التعديلات الجوهرية مع تعزيز نفوذ بن غفير، الذي تتبع لوزارته “وحدة حرس الحدود”، ومنها قوات اليمّام الخاصة التي تنشط في الضفة الغربية، نحو السيطرة المطلقة، لحزب “الصهيونية الدينية”، الذي ينادي بالموت للعرب وتهجيرهم من ديارهم، وقد تسلّح بقوانين دستورية تحرسها فرق أمنية تتبع له.
أمام هذا التطور الجذري، في عقر دار السلطة الفلسطينية، والمسافة بين “بيت إيل”، مقر قيادة “الإدارة المدنية”، ومقر رئاسة السلطة في رام الله، ضربة حجر، تنعدم وفقها كل خيارات إدارة الحياة اليومية، فضلاً عن الخيارات السياسية، خصوصاً إذا علمنا أن سموتريتش نفسه سيتولى وزارة المال، وهي المسؤولة المباشرة عن تحويل أموال الضريبة “المقاصّة” إلى السلطة، بما يضع هيكلها كله أمام هذا الاستحقاق المصيري.
ما خيارات السلطة الفلسطينية في مواجهة قرار الناخب الإسرائيلي، وقد أفرز حزباً يهودياً يتحكّم بتلابيب وأنفاس المواطن الفلسطيني، ومعه السلطة ومؤسساتها المدنية وأجهزتها الأمنية؟
تدرك السلطة طبيعة المأزق الموعود، وهي اليوم في مواجهة كابوس غير مسبوق، كابوس يجعل غاية طموحها أن تعبره بأقل خسارة ميدانية وليس سياسية فحسب، فالحال المقبلة ليست مساومات سياسية ولا تضييقاً اقتصادياً، إنما أرض تنحسر من تحت الأقدام على نحو متسارع، وليس بالضرورة حلّ السلطة، ولكن دفعها نحو حافة الهاوية، ليصبح مجرد التفكير في أقل شكوى دولية مغامرة ثمنها يتجاوز حجز أموال المقاصّة، فضلاً عن استمرار اقتطاع الأموال المقررة لأسر الشهداء والأسرى، إمعاناً في التوحش الأمني، ومصادرة الأرض، وسلب الصلاحيات.
تقف السلطة أمام مفترق طرق. وربما ليقرر مسارها النهائي هي مضطرة، وقد أسندت ظهرها إلى الحائط الأخير، أن تغادر مربعها الراهن الذي تُراوح فيه منذ فشل “كامب ديفيد” عام 2000 نحو خيارات أخرى، تتسع لها حساباتها، وهي ليست بالضرورة طلاقاً بائناً مع المحتل، وإن كان هو الأصوب جذرياً، ولكنه ممتنع في ظل ما خلّفته عقود “أوسلو” من إفراز طبقة سياسية اجتماعية كاملة، تداخل نمطها المعيشي مع منحاها السياسي، وقد طال عليها الأمد، فانعدمت خياراتها خارج مشروع التسوية السياسية، فما هذه الخيارات؟
أمام السلطة سيناريوهات عدة يتسع لها نمطها السياسي، وإن لم تكن هي الفضلى في أيّ حال وفق النظرة الجذرية إلى الصراع، ولكنها خيارات يمكن عبرها أن تجدد في شرايينها الحياة لتجاوز أزمة التغوّل اليميني الإسرائيلي، بتفعيل دور منظمة التحرير بقيادة بعيدة من السلطة الراهنة، وهو خيار ممكن، من خلال قيادات قديمة أو شابة، قومية وإسلامية ومستقلة، تحظى بدعم السلطة الصريح سياسياً، بما يمكّنها من خلق مظلة تحتضن المأزق الفلسطيني، وتشكل قلقاً سياسياً للكيان العبري ومنظومة التطبيع.
ويمكن للسلطة عبر أذرعها الميدانية تفعيل النضال الشعبي لمصلحة الأسرى ومجابهة الاستيطان، وتعزيز نقاط المواجهة ورفدها بكل الإمكانيات الشعبية، مع توفير غطاء نسبي للمجموعات الفدائية، في جنين ونابلس، وغض الطرف عن تمددها، وتحمّل التبعات الآنية لهذا التمدد، خصوصاً مع تمركز بؤَرِه في المخيمات والأحياء الشعبية، وتضييق حالات الاحتكاك السلبي معها، بما يجنّب أي مواجهة معها، واستثمار كل عمل مقاوم يصدر من الضفة أو غزة، وربطه في سياق مجابهة الوحشية الإسرائيلية، وتحمل تبعات ذلك.
وتتطلب هذه الخيارات عزل القيادات والشخصيات المرغوب فيها إسرائيلياً من هياكل السلطة، وتعزيز نفوذ الشباب على حساب المسنين، بما يفرز واقعاً فلسطينياً في الضفة الغربية والقدس يحافظ على الحد الأدنى من الاستعصاء، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بعد تجفيف التوتر القائم مع حركتي حماس والجهاد، في ظل العجز عن اتفاق شامل، مع ضرورة تفعيل دور الجبهتين الشعبية والديمقراطية، والكف عن الاعتقال السياسي والأمني، والتوجه نحو تعزيز إجراءات فرض النظام العام في مواجهة المشكلات العائلية والانحرافات الأخلاقية والاتجار بالمخدرات.
ولا بد من خلق فضاء إقليمي ودولي جديد يرتكز على تعزيز العلاقات الخارجية بكل الدول غير المطبّعة، وإعادة النظر في عمل السفارات لتكون أدوات فاعلة، ووضع أوروبا والعالم أمام أزمة حقوق الإنسان المتفاقمة في فلسطين، واستثمار أقل جهد عالمي، من مثل قرار أوروبا الجديد مقاطعة الشرطة الإسرائيلية، وشكوى “قناة الجزيرة” للجنائية الدولية في ملف اغتيال شيرين أبو عاقلة، والكف عن المراهنة على الأميركي باعتباره خصماً لا صديقاً في أي حال.
هذه الخيارات على صعوبة تحققها في فضاء السلطة، تبدو خيارات اضطرارية، وإن لم تكن مؤهلة لصوغ واقع فلسطيني كامل الأهلية. ومع ذلك سيكون لها ارتدادات خطرة، ولكنها تظل أقل خطراً على السلطة، باعتبارها حاجة فلسطينية خدماتية ورمزية ليس لها بديل، من المراوحة في المربع نفسه مع الإمعان في تجاهل الرأي العام الفلسطيني الساخط على هذا الواقع، في ظل هذا التطرّف الإسرائيلي، وقد أشعل كل نيرانه دفعة واحدة لتمس كل الفلسطينيين من دون تفريق، ليحقّق رؤيته العقائدية المتمثلة في مقولة “العربيّ الجيّد هو العربيّ الميت لا غير”.
المصدر : الميادين