الأولويات الفلسطينية بين «انتفاضة القضاء» وحرب المستوطنين

بقلم جمال زقوت

شكلت “ليلة البلور/ البوجروم” في حوارة الضوء الأحمر الذي يجب أن يشعل حواس الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، ومعه كل شعوب الأرض التي اكتوت بنيران الفاشية، إزاء طبيعة الإرهاب المنظم الذي يتعرض له المدنيون الفلسطينون من قبل عصابات المستوطنين المدعومة من حكومة الاستيطان وجيش الاحتلال.

هذا الهجوم الإرهابي لم يكن مفاجئاً، ويتجاوز في أبعاده أن يكون مجرد ردة فعل أو “حالة شغب عابرة” على عملية قتل مستوطنَيْن بالقرب من تلك البلدة التي تخضع لما يسمى بالسيطرة الأمنية لجيش الاحتلال، كرد على مجزرة نابلس الاخيرة التي ذهب ضحيتها أحد عشر فلسطينياً وجرح ما يزيد على المئة.

فقد سبق هذا الهجوم سلسلة من الأعمال الإرهابية استهدفت مصادر رزق المزارعين الفلسطينيين من حرق وقطع أشجار الزيتون وهجمات أخرى على البلدات والقرى المجاورة وقطع الطرق، بالإضافة لجريمتي حرق الطفل أبوخضير وعائلة دوابشة وهم أحياء.

لن نأتي بجديد عندما نكرر القول أن هؤلاء المستوطنين هم “الابن الشرعي” للمشروع الاستيطاني الذي كان دوماً مركز أولويات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، في إطار الرواية التوراتية التي تنكر حق الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين بالوجود في هذه البلاد، وحقهم الطبيعي في تقرير المصير.

التحولات الواسعة داخل المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف بدأ في التصاعد منذ اغتيال رابين واستعادة الليكود للحكم، ونجاحه في تحطيم فرص التسوية السياسية، ومعها ما كان يسمى بحل الدولتين كمكون أساسي لأيديولوجية إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير مصيره في هذه البلاد.

دون المزيد من جلد الذات، إلا أنه لا يمكن إنكار المسؤولية الفلسطينية عن الإسهام غير المباشر في صعود الفاشية الاستيطانية عندما تجاوز فريق أوسلو موقف حيدر عبد الشافي، الذي كان يترأس وفد المفاوضات في مدريد و واشنطن، إزاء مسألة وقف الاستيطان كشرط مسبق لأي اتفاق انتقالي، وإحجام هذا الفريق عن المطالبة بتفكيك مستوطنات غزة في مرحلة غزة أريحا، وكذلك قبوله بالتبادلية في خدمة الواقع الاستيطاني، التي استخدمت كبوابة لاستمرار توسُّعه من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وشكلت أكبر عملية نصب واحتيال لنهب الأرض الفلسطينية وقتل حل الدولتين.

بوصول الفاشية الاستيطانية لمقود الحكم في إسرائيل تمهّد الطريق أمامها، ليس فقط لإطلاق العنان لمشروعها الاستيطاني فحسب، بل، ولمشروع الضم الكامل الذي يتطلب من وجهة نظرها المزيد من إرهاب الفلسطينيين، وربما استكمال النكبة بدفعهم للهجرة الطوعية، وهذا بالضبط ما حملته رسالة سموتريتش بتأييده لإبادة حوارة، وهو يخوض مع ائتلاف اليمين مخطط فرض الشريعة على مؤسسات دولة و”أرض إسرائيل”، وليس فقط مؤسستها القضائية.

للأسف لم يدرك مئات آلاف المتظاهرين في إسرائيل، ويبدو أنهم ما زالوا بعيدين عن تلك اللحظة، بأن المشروع الاستيطاني الذي شاركوا به جميعاً، هو الذي حمل الفاشية الاستيطانية العنصرية للحكم، وشجعها على الانقضاض على ما يسمونه “ديمقراطية إسرائيل” نفسها. فهم لم يدركوا بعد أنه لا وجود لما يسمى بالديمقراطية طالما هي قائمة على الاحتلال والضم والتوسع الاستعماري، وهدم بيوت ومصادرة ممتلكات وأرض شعب آخر.

سيناريوهات انتفاضة القضاء وطبيعة الصراع

لا يمكن التقليل مما يمكن تسميته “بانتفاضة القضاء”، والتي تتصاعد بصورة واضحة، وتبرز معها حجم التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي. مستقبل هذه الاحتجاجات يحتمل أحد السيناريوهين؛ الأول بأن يتراجع بنيامين نتنياهو عن خطته مما قد يُعرض ائتلافه للتفكك، وهو ما لن يقدم عليه إطلاقاً إلا بضمان جذب چانتس للائتلاف بديلاً عن شريكيه “سموتريتش وبن چڤير”، وأن يضمن كذلك تخلي چانتس عن قضية محاكمة نتنياهو على قضايا الفساد.

ربما يكون هذا السيناريو هو المفضل أمريكياً من موقع حرصها على إسرائيل، وهو السيناريو الأخطر على القضية الفلسطينية، حيث يحمل في طياته التعتيم على احتلال تلك الدولة التي “انتصرت لديمقراطيتها”، وغض النظر عن أن نتنياهو هو الأب الروحي للمشروع الاستيطاني الذي يرفض باستماته إنهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير المصير.
السيناريو الثاني وهو الذي يتهم به نتنياهو خصومه بمحاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات وإسقاط الحكومة، وهو الأمر الذي لن يسلم به، وقد يدفع بالفاشية الاستيطانية لتوسيع نطاق إرهابها على المدنيين الفلسطينيين، واستدعاء ردات فعل ذات طابع مسلح لحرف أنظار المجتمع الإسرائيلي عن معركته الداخلية وزجه في حالة فوضى الصراع مع الفلسطينيين.

أياً كان السيناريو الذي قد تؤول إليه الاحتجاجات ضد الخطة القضائية للائتلاف الحكومي، فإن المسؤولية الفلسطينية، وفي كل الأحوال، تتطلب مغادرة الرهان على إحداث تغيير ولو نسبي إزاء رؤية النظام السياسي في إسرائيل لمستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بقدر ما يجب إيلاء الاهتمام لترميم الحالة الفلسطينية المتآكلة والتي كانت وما تزال سبباً جوهرياً للتوغل الاستيطاني ومحاولات الاستفراد بالضفة الغربية وحسم الصراع على مستقبل أرضها ومجمل مكونات القضية الفلسطينية.

صحيح أنه لا يوجد مصلحة إسرائيلية لانهيار السلطة قبل حسم الصراع، ولكن مصلحتها الأكيدة هي أن تظل السلطة ومنظمة التحرير مفككتين ينخرهما الانقسام، وما يولده من فساد وتآكل الثقة الشعبية، الأمر الذي يسهل الاستفراد بهما، ومحاولة تمرير مخططاتها التصفوية من بين شقوق الانقسام وعفن الصراع على السلطة، والتي باتت قدرتها على القيام بواجباتها شبه منهارة ومعطلة.

هذا في وقت أن الأغلبية الساحقة من الشعب باتت في واد، والمجموعة المهيمنة على ضفتي الانقسام في واد آخر، إلا أن هذه الكتلة الشعبية ونخبها لم تتمكن حتى الآن من بلورة حاضنتها السياسية رغم أن حالة التمرد الشعبي، وبعض مظاهره المسلحة نجحت في امتلاك الحاضنة الشعبية العريضة.

يبدو أن المجموعة المهيمنة على ضفتي الانقسام مصممة على استمرار الانفراد بالمصير الوطني، بما يخدم مصالحها الفئوية والشخصية، كما أنها تواصل رفض الاستجابة لمطالب القطاعات الاجتماعية المختلفة، التي تشهد انهيارات جدية سيما في قطاع التعليم والعدالة والقضاء والحريات ومؤشرات المس بالموروث الثقافي، وكل مظاهر سوء استخدام السلطة بما تلحقه من أضرار جدية على القطاعات الشعبية العريضة، وما يحمله ذلك من مخاصر حقيقية على قدرة شعبنا على الصمود في وجه مخططات الاحتلال.

إن هذا الواقع يفرض البحث الجدّي من كل الوطنيين الفلسطينيين الغيورين على مستقبلنا الوطني حول سبل استعادة وحدة شعبنا ومؤسساته، ودورها في تعزيز صموده وحماية نسيجه الوطني والاجتماعي، وما يتطلبه ذلك من تحرك عاجل وملموس بعيداً عن أية حسابات ضيقة لبلورة أشكال من التنسيق والعمل الموحد لتوفير الحاضنة السياسية للارادة الشعبية، واستنهاضها لوقف حالة التفرد والهيمنة، وإلزام الجميع بالعودة إلى مسار التحرر الوطني والبناء الديمقراطي.

فليس من خيار أمام شعبنا لكسر طابو الاجماع الإسرائيلي على رفض الاعتراف بحقوقنا الوطنية سوى هذا المسار بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم الجميع، وحكومة كفاءات وطنية انتقالية أولويتها العمل على استعادة ثقة الشعب بمستقبله، وتوفير مقومات صموده، والعمل الجاد في إطار توافق وطني شامل لضمان ممارسته لحقه الطبيعي والدستوري في انتخاب ممثليه وقيادته، وإعادة بناء مؤسساته الوطنية الجامعة لقيادة كفاحه وإنجاز حقوقه الوطنية في الحرية والعودة وتقرير المصير.

الصدر : الغد