متى تنقل واشنطن حريق السودان إلى “إفريسيا”

بقلم علي شندب

لم تكن ليبيا القذّافية ومنذ اندلاع ثورة الفاتح عام 1969 إلّا في المعسكر الرافض لهيمنة الولايات المتحدة، بل كانت غالباً رأس حربة المواجهة معها بدءًا بطردها القواعد الأمريكية والبريطانية وبقايا الاستعمار الإيطالي. ولم يكن للدول الغربية من نفوذ فيها إلّا بعد المصالحة التي أعقبت حلّ مشكلة لوكربي نهاية عام 2003 وما استتبعها من تحوّل متبادل في العلاقات البينية بشهادة تقاطر قادة الدول الأوروبية ووزيرة خارجية الفوضى الخلّاقة كوندليزا رايس إلى خيمة القذّافي، التي نُصبت أيضاً في نيويورك والإليزيه، لينطلق عهد من التعاون الاقتصادي والاستثماري والصفقات التي تسلّلت عبر سماسرتها وعلى مدى ثماني سنوات أدوات نخر عظام النظام الليبي، ليتمّ الانقضاض الناتوي بملحقاته العربية عليه عام 2011، وتكون النتيجة تدمير ليبيا دولة ونظاماً وبنية تحتية، فضلاً عن مآس أصابت ملايين المهجرين، وجراح عميقة لم تندمل بعد.

ثم اندلع القتال بين المثوّرين على القذّافي من ثوّار الناتو ومجاهديه فمزّقوا عباءة “17 فبراير” التي التحفوها، وترفع كل منطقة رايتها وبيرقها، ولتسبح ليبيا في دمها، فيقتل بين أطراف فبراير بعد 2011 أكثر ممّا قتل من الليبيين في عدوان الناتو. وبدت ليبيا الناتوية الجديدة، مصدر قلق عميق لجوارها المتوسطي والافريقي بدءاً من مصر وتونس والجزائر وانتهاءً بدول الساحل والصحراء من تشاد وافريقيا الوسطى الى النيجر ومالي وأيضاً السودان عبر تلك المنطقة الصحراوية المتداخلة والشاسعة، والخارجة عن سيطرة غالبية الدول المذكورة. فالسيادة فيها لمهربي السلاح، وتجار المخدرات والبشر والهجرة غير الشرعية، وأيضاً لأمراء الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل القاعدة وداعش وأخواتهما. وباتت الفوضى الليبية مصدر خطر على الأمن الإقليمي والدولي سيّما بعدما انخرطت فيها قوى إقليمية ودولية كبرى وصغرى ومتوسطة.

عند هذا الحدّ، تسلّم فلاديمير بوتين السلطة من سلفه ميدفيدف، وأطلق كلمته المشهورة “لقد تعلّمنا من درس ليبيا” التي لم تكن سوى عبارة عن استراتيجية روسيا للمرحلة المقبلة، سيّما بعدما كرّرها لافروف عن زعيمه بوتين الذي سارع الى ترجمتها في سوريا، فمنع إسقاط نظام بشّار الأسد، وأبقاه حيّاً لهذه اللحظة.

لم يكن الغرب عامة متأكد، أن مقاصد بوتين من عبارته الاستراتيجية “لقد تعلّمنا من درس ليبيا” لا تستبطن الثأر من الغرب الذي خدعه. لكنّ بوتين كان عميق الاقتناع بأن ضرب الامتدادات العربية للاتحاد السوفياتي لحظة انهياره وبعدها، بدءًا من غزو العراق وتدمير ليبيا وسوريا واليمن، كان المقدّمة الضرورية لضرب روسيا الذي بدأ أصلاً عبر الثورات الملوّنة في جورجيا ثم أوكرانيا، ليشتعل بعدها الربيع العربي، وليعيد الغرب زحفه عبر أوكرانيا ومن ورائها باتجاه الهدف الأكبر المتمثّل بتفكيك روسيا.

اذن، عندما أطلق بوتين عبارته “لقد تعلّمنا من درس ليبيا”، كان يستبطن ثأرًا بمفعول رجعي من الغرب الذي يلتهم مناطق نفوذ روسيا بوصفها وريثة الاتحاد السوفياتي. ثأر، كانت “فاغنر” أداته الضاربة. فإذا كانت قانونية وشرعية تدخل روسيا في سوريا متوفرة لأنها حصلت بطلب الحكومة السورية. فإنّها غير متوفرة في ليبيا والصحاري الافريقية المعلومة. ولهذا أوكلت المهمة الإفريقية لشركة فاغنر بدءًا من ليبيا لتقويض معادلات ما بعد القذّافي، وإرساء معادلات جديدة محميّة بمقاتلات “ميغ وسوخوي” ومنظومات “بانتسير إس و SS300” الرابضة والمنصوبة في أهم القواعد الاستراتيجية مثل القرضابية في خليج سرت، والجفرة في إقليم فزّان، والخروبة قرب بنغازي. قواعد منعت أساطيل تركيا من الاقتراب من خليج سرت أو التوجه جنوباً باتجاه الصحراء ودواخلها فضلاً عن شرقي ليبيا، ثم رفعت مصر ورئيسها عبدالفتّاح السيسي بعد مناورات عسكرية ضخمة على حدود ليبيا شعار “سرت والجفرة خط أحمر”.

بهذا المعنى، “فاغنر” ليست مجرّد مرتزقة، إنّها أداة التدخل البوتينية شبه الرسمية حيثما تقضي مصلحة روسيا الاستراتيجية ذلك. وانطلاقاً من هذه المصلحة العليا توغّلت فاغنر في الدواخل الإفريقية المجاورة لليبيا. وبالكلام عن “المرتزقة” فهل الذين استقدمتهم واشنطن وحلف الناتو لغزو العراق وتدمير ليبيا كانوا من “الملائكة”.

ولكي يكون الثأر عميقاً، يكفي التذكير بالاحتجاجات التي أسقطت الفرنكوفونية عملة ولغة، ثمّ أطاحت بحكومات مالي وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو الذين طردوا رسمياً القوات والقواعد الفرنسية، التي لم يتبق منها سوى قاعدة في تشاد التي يتردّد أن رئيسها محمد ادريس ديبي المهجوس بمصير مشابه لمصير والده، يبحث عن طريقة سليمة تؤمن تموضعه ضمن مربعات فاغنر وحتى نتنياهو وليس فقط ماكرون.

إهتزاز دول الساحل والصحراء إذن، كان نتيجة طبيعة لاهتزاز ليبيا، بعد شطب صمّام أمنها وأمانها معّمر القذّافي. شطب، عملت فاغنر على معالجة تداعياته وفق ما تسمح به التوازنات الإقليمية والدولية الآخذة في الاهتزاز منذ ما قبل إنطلاق العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا.

حرب السودان في اسبوعها الثالث، ضاعفت بدون شك من اهتزازات المنطقة والمسرح الدولي برمته. فأحداث الخرطوم الملتهبة رغم الهدن المتواصلة لم تزل الخبر ما قبل الأول في الفضائيات والإعلام العربي والدولي. أوكرانيا رغم تموضع معاركها على خط التوتر النووي تحوّلت الى خبر ثانوي لا ثاني، لكن استهداف مبنى الكرملين بمُسيرتين أعاد الأضواء للحرب الروسية الأوكرانية. فما الذي جعل السودان يسيطر على صدارة الأخبار العالمية؟ وهل أن انقلابات البرهان المثّلثّة والمتوّجة بخلافه مع حميدتي كانت تشي بهكذا حرب؟

قبل حرب السودان كنّا نبحث وننقّب عن مكان وكيفية الردّ الأميركي على الانقلاب غير المسبوق الذي أحدثه الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين. انقلاب، بطله بدون منازع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي سدّد قبل الاتفاق وبعده الكثير من الضربات الموجعة اقتصاديا ومالياً وسياسياً في الرأس وليس فقط في الخواصر الأمريكية الرخوة. وبتنا نسمع صراخاً من أصوات أمريكية وازنة وكبيرة تتحدث عن “حتمية سقوط الدولار”، وفقدانه الهيمنة والقيمة المعيارية تجاه النقد العالمي والتجارة الدولية.

بعد حرب السودان توقفنا عن البحث. ليقيننا أنّ هذه الحرب وبخلاف فضائيات التسطيح والتضليل المختلفة، ستعجّل اذا ما استمرت في إعلان السودان دولة فاشلة تتناتشها مجاميع مسلحة وسط فوضى عارمة حتى ضمن المربعات الأمنية المتماسكة، ما يجعل السودان بيئة استراتيجية مناسبة ليكون منصّة فعّالة لضرب منظومات الترتيبات الإقليمية والدولية في “إفريسيا” أي “افريقيا وآسيا” معاً.

إعلام التسطيح والتضليل، يركز على أنّ تداعيات حرب السودان ستصيب دول جواره الافريقية السبعة، ويتعامى قصداً أو جهلاً عن أنّ السعودية منقذة اللاجئين من حريق الخرطوم، هي الدولة الثامنة المتموضعة على الضفة الثانية للبحر الأحمر، وأنّ المسافة بين بورتسودان وجدة لا تتجاوز 270 كلم، أي أنها تحتاج لصواريخ بالستية بسيطة لا متطورة.

لن ينتظر الأمريكيون كما انتظر بوتين ليثأروا. فبحسب شياطين وأبالسة “المجمّع الصناعي العسكري الأمريكي” “اعتقدت السعودية أنّها بانقلابها على واشنطن، وتصالحها وتصفيرها المشاكل وتصفيتها مع إيران، قد ضمنت أمنها من الصواريخ البالستية المجنّحة والمسيرات الحوثية المفخّخة، كما ضمنت أمن وسلامة معامل أرامكو وحقولها فضلاً عن ناقلات النفط في البحر الأحمر. وبحسب الشياطين والأبالسة إياهم، غاب عن بال القيادة السعودية أنّ “الحوثيين السودانيين” متربصين لاستكمال مهمة حوثيي اليمن”. أي أن بمقدور حوثيي السودان بجذورهم “السُنّية” وامتداداتهم غير النائمة، أن يفعلوا ما هو أكبر من تعطيل الملاحة من قناة السويس الى باب المندب.

واتساقاً مع مثل قروي يقول “الضربة التي تفشّ الخلق، تخرب البيت”، فالردّ الأمريكي على القفزة الصينية عبر الأجنحة السعودية واستطرادًا الإيرانية، لا بدّ أن يكون أكبر من حجمها دوياً وتأثيراً. ما يعني أنّ “أبالسة الشيطان الأكبر” سيجهدون لفعل المستحيلات لمنع سقوط الدولار رمز هيمنتهم الآحادية على العالم، ومن هذه المستحيلات يبدو أنّ الردّ الأمريكي على روسيا والصين بجعل “السودان أوكرانيا “إفريسيا” بات وشيكاً، إلّا إذا كان عصر الهيمنة الأمريكية قد انتهى فعلاً!

المصدر : موقع الغد