بعد جنين.. فلسطين إلى أين؟!
بقلم جمال زقوت
استراتيجية حكومة بن غفير – سموتريتش بزعامة نتانياهو وأولويتها العليا، تتمثل في ضم معظم أراضي الضفة الغربية، وعزل المدن الرئيسية في كانتونات مقطعة الأوصال في شمال ووسط وجنوب الضفة، بالإضافة إلى كانتون قطاع غزة الذي يترسخ يومًا تلو الآخر. ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية، فهي تواصل عدوانها الدموي ضد شعبنا وأرضه ومصادر حياته ورزقه. فهذه الحكومة التي تسعى لتطبيق ما يسمى بالشريعة التوراتية التي تعتبر أن فلسطين التاريخية هي أرض الميعاد وقاعدة “إسرائيل الكبرى” القادرة على إطباق هيمنتها الكاملة على المنطقة، تحاول احتواء الاعتراضات الداخلية التي انفجرت في مواجهة ما يسمى بالتعديلات القضائية، والتي تحسم هوية إسرائيل وتختزلها في دولة ثيوقراطية. فهي تدرك أنه بالقدر الذي تُفَجِّرُ فيه هذه التعديلات تناقضات جوهرية داخل ذلك المجتمع حول طبيعة الحكم وهوية الدولة، فإن استباحة دم المواطنين الفلسطينيين، وتدمير منازلهم وسبل حياتهم، وضم أراضيهم وتوسيع الاستيطان يقلص فجوة الانقسام داخله، كما أنه يطيل أمد بقاء هذه الحكومة، وقدرتها على استمرار التضليل الذي دأبت حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ النكبة على ادعائه ازاء ما يسمى “ديمقراطية الدولة” في وقت أنها نشأت على اغتصاب فلسطين، والتمييز العنصري ضد الأقلية الفلسطينية التي ظلت صامدة على أرضها.
الضم.. عنوان الحرب على شعبنا
من هذه الزاوية يجب أن ننظر لما جرى في مخيم جنين، ويجري في بلدة نابلس القديمة، وفي غيرها من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، من عمليات قتل يومي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي تستهدف بالدرجة الأولى إرهاب الشعب الفلسطيني، ومحاولة يائسة منها لإخضاع جذوة مقاومته العنيدة، و تصميمه على رفض الاحتلال، ومقاومة مخططاته للضم والتصفية التي تسابق فيها حكومة الاحتلال الزمن لإملائها على الأرض، وهي في الواقع تذكرنا بالجرائم الإرهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية لتهجير وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه عشية نكبة عام 1948 .
الملفت للانتباه، وبما يشبه الكوميديا السوداء، أن حكومة الثلاثي “نتانياهو – سموتريتش – بن غفير” تقوم بجرائم القتل تلك وبمساندة من الإدارة الأمريكية بذريعة ما يسمى “بتقوية وتمكين السلطة الفلسطينية” وجزّ ما يطلق بعضهم عليه “الأعشاب السامة” تحت غطاء ما يعرف بتفاهمات العقبة وشرم الشيخ، أي تصفية المتمردين على تلك المخططات، والتي لا تستطيع القيام بها. ذلك كله يتم تحت عباءة التنسيق الأمني الذي لم تعد له أية وظيفة سوى حماية أمن الاحتلال والاستيطان، وعدم المس بقدرته على تنفيذ مخططاته، التي لم تعد تقبل التأويل، لاجتثاث مجرد التفكير بإنهاء الاحتلال وانتزاع دولة فلسطينية مستقلة. ومرة أخرى يجري ذلك بتنسيق مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي ما فتأت إدارتها تتحدث عن حل الدولتين كشعار فارغ دون مضمون عملي أو سياسي، وهمها الأوحد توسيع حالة التطبيع مع الدول العربية بلا أي ثمن، سيما فيما يتصل بالقضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
السؤال الذي يدور في صدور الناس هو: كيف للسلطة الفلسطينية والاتجاه المهيمن على حزبها الحاكم أن تأخذ موقفًا رماديًا ملتبسًا، بل وتضع نفسها في مواجهة إرادة الصمود الوطني الذي عبر عنه مخيم جنين وبلدة نابلس القديمة والعديد من المخيمات والمواقع؛ دون أن تدرك هذه القيادة المهيمنة على السلطة؛ أن الشعب الفلسطيني الذي قدم لها الفرصة تلو الأخرى منذ نشأتها، لكي، أولاً يتجنب الصدام الداخلي، وثانيًا لعل هذه القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي تراجع مسيرتها وتنصاع لإرادة شعبها في الوحدة والمقاومة. إلا أنه بات من الواضح أن صبر الشعب قد نفذ وبات على اقتناع بأن الخطر بات يمس بصورة ماثلة للعيان، ليس فقط مستقبل قدرته على انتزاع حقوقه، بل ويهدد وجوده وقدرته على البقاء في هذه البلاد.
النهوض في مواجهة العدوانية
في مواجهة هزيمة حزيران واستكمال احتلال فلسطين، شكلت معركة الكرامة نقطة تحول استراتيجية مكنت حركة فتح وفصائل المقاومة الفلسطينية من امتلاك زمام المبادرة لقيادة مسيرة الثورة. كما أنه في مواجهة نتائج الحرب على لبنان وقوات منظمة التحرير وإجلائها من خطوط المواجهة الشمالية، انفجرت الانتفاضة الكبرى. ومن البديهي اليوم، وفي ظل هذه العدوانية الفاشية، أن تنفجر بؤر المقاومة بأشكالها المتنوعة، سيما في ظل غياب استراتيجية وطنية توحد المقاومة في خدمة الأهداف الوطنية. فالجديد هذه المرة أن بؤر المقاومة تلك تنهض من ركام الانقسام وحالة الانهيار أو شبه الانهيار التي تتسم بها الحركة الوطنية، وفي ظل تمسك قيادة السلطة بالتزاماتها الأمنية التي تضعها أو تكاد في مواجهةٍ مع شعبها، وعلى حساب الحاضنة الشعبية التي انطلقت منذ معركة الكرامة وصمود بيروت والانتفاضة الكبرى. وأيضًا في ظل سعي حركة حماس لإجمال ما يسمى بهدنة طويلة الأمد تُكرِّس الانفصال، وتعزل غزة عن دورها التاريخي كرافعة للحركة الوطنية وصون هوية شعبنا الموحدة.
تكرار المأساة.. كوميديا سوداء
هل التاريخ يعد نفسه بهذه الكوميديا السوداء التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنها من دمه وتضحياته وأرضه؟.. وهل الحركة الوطنية بزعامة “فتح الكرامة” ستظل حبيسة أزمتها لتؤبن مسيرتها، مضحية بمسيرة وتضحيات عشرات آلاف الشهداء، على مذبح وهم السلام وسراب الصراع الانقسامي على “شرعية مزعومة” مع حركة حماس، والتي تشكل الوجه المأساوي الآخر لمفهوم الحكم والسلطة تحت حراب الاحتلال، والهدنة طويلة الأمد الوجه الآخر للتنسيق الأمني وكلاهما بالمجان .
نفاذ صبر الناس
ردات الفعل الشعبية التي أعقبت معركة مخيم جنين، هي بمثابة الجرس الأخير والضوء الأحمر الذي يجب أن يشعل حواس ومسؤولية الجميع، وبغض النظر عن ملابساته، وربما خروجه عن تقاليد شعبنا خاصة خلال تشييع الشهداء، إلا أنه يعكس نفاذ صبر الناس، ومدى حاجتها لمراجعة مسيرة التآكل وأسباب العزلة التي تعيشها الحركة الوطنية وقواها الرئيسية، ومجمل نظامها السياسي المتهالك .
الاختبار الأخير.. حكومة الوحدة والصمود
الاختبار الأخير، هو فيما سيتمخض عنه اللقاء المحتمل عقده للأمناء العامين، والذي أعلنت مصر احتضانها له في نهاية الشهر الجاري، سيما لجهة مدى القدرة على الخروج من هكذا اجتماع بموقف وطني موحد يقطع مع أسباب الانهيار والتفكك، ويفضي إلى خارطة طريق وطنية تجسد حاجة الشعب الفلسطيني ومكانة قضيته الوطنية لإنهاء الانقسام بصورة فورية، وأن يعلن عن تشكيل حكومة “الوحدة والصمود والإنقاذ الوطني” الانتقالية، والتي يجب أن تضم الجميع وتضعهم أمام مسؤولياتهم، بما يعني وأد التفلّتات الانفصالية في غزة، وتهديدات العصا والحلول الأمنية في الضفة، وما ينذران به من أخطار استراتيجية تكاد تكون وجودية، واستعادة مكانة المؤسسات الوطنية الجامعة على صعيد المنظمة والسلطة تمهيدًا لإعادة الأمانة والحقوق الدستورية للشعب، وتمكينه دون مواربة أو تلاعب من انتخاب قيادته الوطنية في إطار منظمة التحرير الموحدة واستعادة طابعها الجبهوي باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا وقائدة نضاله التحرري، وإعادة بناء وظيفة ودور السلطة الوطنية وفق أولوية الصمود والقدرة على البقاء ومواجهة المخاطر المحدقة. هذا هو الاختبار العملي بعيدًا عن الاستهلاك الإعلامي وهدر الوقت. وأما الاستمرار في المراوغة والرهانات الفاشلة، والتخلي عن مقتضيات المسؤولية الوطنية، والصراع على شرعية التمثيل تحت حطام ما خلفه الانقسام المدمر فلم تعد تنطلي على أحد ويتم لفظها تدريجيًا من الناس. هذا الزمن قد ولَّى، فقد أدركت الأغلبية الساحقة طريقها نحو الحرية .
المصدر : الغد