أين تكمن مصادر قوة الصين في بناء نظام عالمي جديد؟

بقلم أندري غوبين ـ الأستاذ المشارك في قسم العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأقصى ـ موسكو

وفقاً لباحثين من جامعة فودان الصينية، فإن الاختلاف الأساسي بين الصين والدول الغربية هو أنّ الأولى تعتمد على المصلحة الجماعية للشعب بأكمله بدلاً من عكس مصالح الفئات الاجتماعية المتباينة في أنشطة العديد من الأحزاب المتنافسة. وهذا يعني أن المركزية هي شرط ضروري للتقدّم، وإلا فإنّ الإمكانات السياسية ستهدر على صراع داخلي لا معنى له”.

على مدى السنوات العشرين الماضية على الأقل، كان اهتمام المنظّرين والممارسين في مجال العلاقات الدولية ينصبّ على ما يمكن وصفه بـ “النمو السلمي” للصين. ويحاول باحثون من مختلف البلدان احتساب الإمكانات الحقيقية والكشف عن النوايا الموجودة لدى القيادة الصينية لجهة استبدال الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة على العالم. وحتى وقت قريب، كان يُعتقد في التقاليد الغربية أن بكين ليست لديها طموحات للمشاركة في إدارة العالم، وأنها تركّز فقط على الحد من تصرّفات واشنطن في الأماكن المهمة استراتيجياً بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

في الوقت نفسه، تجبرنا تصريحات القيادة الصينية بخصوص الملفات الدولية على إعادة التفكير في دور ووزن بكين في كل من العملية السياسية العالمية ونظام الاقتصاد العالمي.

قيادة الإصلاح

وفقاً للمُنظِّر الصيني البارز يان زويتونغ، فإنّ عصر الهيمنة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة حمل طابعاً مؤقتاً لحين تشكيل نموذج جديد للقطبية الثنائية، حيث ستؤدي الصين دور “القوة العظمى الصغرى”.

ولكن اليوم، تفكّر القيادة الصينية خارج هذه النظرية. على الرغم من أن بكين لم تقدّم استراتيجية عالمية متماسكة لتشكيل النظام العالمي وفقاً لأولوياتها، فإنّ جهود واشنطن لاستعادة موقعها الريادي محكوم عليها بالفشل. فالطريق العسكري مغلق بسبب نظام الردع النووي العالمي، ولم يعد الأميركيون قادرين على تقديم برنامج سلمي يحظى بجاذبية.

ونتيجة لذلك، ظهرت فرص جديدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بديلة عن النموذج الغربي، فضلاً عن طرق أخرى لضمان الأمن العسكري والسياسي من دون المشاركة في التكتلات التي تتمحور حول أميركا. لقد فضّل عدد كبير من الدول النامية الحد بشكل مستقل من تطوير المؤسسات الديمقراطية، لصالح بناء قوة راسخة وكافية لتعزيز الأمن القومي والنمو الاقتصادي المستقر.

على هذا الأساس، فإنّ التراجع الملحوظ في تأثير الدول الغربية وجاذبية الأفكار الليبرالية، لم يكن بأي حال من الأحوال نتيجة لتطبيق الحكومة الصينية نوعاً من “المفاهيم السرية”، على الرغم من أن بكين، بالطبع، لديها الخطة “باء” الخاصة بها.

لا تتعارض إجراءات الصين الملموسة على الساحة الدولية مع مبادئ احترام وحدة الأراضي وسيادة الدولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. في الوقت ذاته، لا يمكن حل المشكلات العالمية كتغيّر المناخ، ومكافحة الأمراض الخطيرة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية غير المتكافئة، وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل من دون مشاركة الصين.

ديمقراطية ضد التقدم

وقد نظر المحللون الغربيون إلى التصريحات الجريئة للقيادة الصينية على أنها تعبير عن نيتهم ​​في تصدير نموذج “الاستبداد التعددي” إلى الخارج و”صيننة” النظام العالمي. وفي واشنطن، انخفض بسرعة عدد مؤيدي مشاركة الصين في الاقتصاد العالمي وإنشاء نموذج توافقي للحكم المشترك بصيغة “الثنائي الكبير” التي تحدث عنها زبيغنيو بريجينسكي.

وبدأت في الأوساط السياسية الأميركية فكرة الاحتواء الصارم متعدد الأبعاد للصين ومنع الأخيرة من نشر نموذجها الخاص للبناء السياسي والاقتصادي على نطاق عالمي.

إن السياسة الأميركية الحالية تجاه الصين هي حملة أيديولوجية مفتوحة ضد نوع من الحضارة المعادية التي يسيطر عليها نظام استبدادي. ومع ذلك، لم يجب الخبراء الغربيون على السؤال، فيما إذا كانت الرؤية الصينية لمستقبل النظام العالمي تتعارض مع القيم الديمقراطية والأفكار الليبرالية.

بالنسبة للصين، تعتبر المبادئ الجماعية ذات أهمية كبيرة تقليدياً. الإنسانية بالنسبة لها ليست مجرد مجموعة من الأفراد، بل هي مجتمع ضخم، لحقوقه ومصالحه أسبقية على الحقوق والمصالح الشخصية. لهذا السبب، تعتقد بكين أن النظام المركزي هو أكثر إنسانية وتقدميّة من الديمقراطية المشتتة على النمط الغربي.

وفقاً لباحثين من جامعة فودان الصينية، فإن الاختلاف الأساسي بين الصين والدول الغربية هو أن الأولى تعتمد على المصلحة الجماعية للشعب بأكمله بدلاً من عكس مصالح الفئات الاجتماعية المتباينة في أنشطة العديد من الأحزاب المتنافسة. وهذا يعني أن المركزية شرط ضروري للتقدّم، وإلا فإن الإمكانات السياسية ستهدر على صراع داخلي لا معنى له.

الهيمنة ماتت – ماذا بعد؟

يقدّم المحللون الصينيون نظام الحكم العالمي على أنه توزيع للسلطة بين الدول أكثر من كونه هيمنة. وتبيّن أن الولايات المتحدة والدول الغربية هي من صنع النظام العالمي الحالي، حيث استغلت انهيار الاتحاد السوفياتي وضعف الصين، مما جعل من الممكن مواصلة الاستغلال لجزء كبير من بلدان العالم، من دون خوف من العواقب.

مع نمو قوتها في شتى المجالات، تأمل الصين في تغيير هذا الوضع، وبالدرجة الأولى من خلال حماية وتحقيق مصالح الدول النامية، وهو ما يتوافق تماماً مع رؤيتها الاشتراكية.

لا يوجد شيء معادٍ للدول الغربية في مثل هذه الرغبة، لكن المصالح القومية لبكين تتعارض تلقائياً مع أفكار “العالم الديمقراطي” حول الأمن والعدالة وقواعد معينة يقوم عليها النظام العالمي الحالي.

في عام 2016، لاحظ الباحثون في الأكاديمية الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة التغييرات الحاصلة في النظام العالمي وظهور ديناميكيات جديدة. وفقاً لهم، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على التعامل مع توزيع القوة، مما يساهم في ظهور مراكز قوة جديدة تتنافس وتتعاون مع بعضها البعض على أساس مصالحها وأولوياتها.

إن انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل المشتركة بشأن إيران، وانسحابها من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومعاهدة الأجواء المفتوحة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والانسحاب من اليونسكو، واتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ، ووقف المفاوضات في إطار الميثاق العالمي للهجرة المنظمة والآمنة.. كلها أسباب ساهمت في اتساع رقعة الفراغ في نظام الحوكمة العالمية.

 لم تترك أنانية وجنون وارتياب واشنطن لبكين أي خيار سوى تحمّل المسؤولية عن حلّ القضايا العالمية، والانتقال إلى مركز النظام العالمي، وتوحيد كل من يشترك معها  بالرؤية نفسها.

ويبدو كذلك أن الانعزالية التي تلازم سياسات البيت الأبيض والانقسام الواضح داخل أوروبا، كلها أمور عززت قناعة القيادة الصينية بالحاجة إلى موقف أقوى على المستوى العالمي.

في روسيا، يتعاطف جزء كبير من المجتمع الأكاديمي مع مبادرات الصين للمشاركة في الحوكمة العالمية، لكنه يمتنع عن التنبؤ. وهكذا، يلاحظ ألكسي فسكريسينسكي أن إحدى اللحظات البارزة كانت خطاب شي جين بينغ في منتدى دافوس في عام 2017، عندما أكد الزعيم الصيني أن نظام الحوكمة العالمي يمكن أن يوفّر ضمانات قوية لاستقرار وتنمية الاقتصاد العالمي فقط إذا تم تكييفه مع المتطلبات الجديدة للمنظومة الاقتصادية الدولية.

ويعتقد فسكريسينسكي أن قضايا تطوير المؤسسات الدولية وحمايتها قد لقيت دعماً واسعاً بين الجمهور الدولي، وهذا جعل من الممكن الاستيلاء على “مقود السيارة” من الولايات المتحدة.

أما أندريه كورتونوف، فيرى أنّ بكين تتقدّم على التيار الدولي السائد، لأنها تؤمن بأن المرحلة الحالية من التفكّك لن تستمر طويلاً. وبحسب قوله، شكّلت الصين استثناءً ملحوظاً، حيث لم تقسّم العالم إلى “صواب” و”خطأ”، وليست في عجلة من أمرها لتضمين هذا الموقف في خطاب المواجهة. لهذا السبب، سيكون مفهوم مجتمع المصير المشترك مطلوباً، حيث لا يزال يتعيّن على الإنسانية الاتفاق على قواعد مشتركة للعبة في حل المشكلات العالمية.

بدوره يقول فلاديمير كاشين إنّ المسعى الحالي للصين للمشاركة في أكبر عدد من المنظمات والأطر الدولية، وتأدية دور أكبر في صياغة برامج العمل لها، يمكن أن يجتذب مؤيدين جدداً.

 أما إيقان تيموفييف فواثق من أن الصين لن تحلّ محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة على العالم. ويرى أنه لن يتحقّق أي نوع جديد من العلاقات الدولية القائمة على المنفعة المتبادلة في المستقبل القريب، بل سيظل العالم في مواجهة على ضوء المحور الرئيسي للتنافس بين الصين والولايات المتحدة. 

لكن هذا لن يوقف تكثيف جهود الصين لتعزيز مواقعها في العالم. ومن المهم كذلك أن نفهم بأن الغرب وقع في “فخ”، عندما اعتقد أن بكين، بسبب الطبيعة الاستبدادية للنظام – بحسب رأيه – غير قادرة على بسط نفوذها خارج حدود الصين. في الواقع، لا يزال من الصعب على بكين إجراء حوار مع جمهور دولي بلغة يسهل الوصول إليها.

من السابق لأوانه تحديد ما إذا كانت القوة الخطابية للصين قادرة على إحداث تأثير حاسم على إصلاح النظام الحديث للعلاقات الدولية. هناك شيء واحد واضح تماماً – الموارد الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية والحضارية الهائلة التي تمتلكها الصين قادرة بالفعل على تغيير ليس البلد نفسه، بل والبيئة الجيوسياسية المحاذية له- بالحد الأدنى.

ومن الواضح أن بكين تنوي اتباع مبدأ “القوة في الحقيقة، ومن لديه الحقيقة هو الأقوى”، الذي يتناسب مع التقاليد الكونفوشيوسية، ويشكّل حقيقته الخاصة حول بنية العالم  البديل عن العالم الغربي.

يؤكد تقدّم محادثات شي جين بينغ مع قادة دول العالم بعد انتخابه رئيساً لجمهورية الصين الشعبية أن عدد مؤيدي الرؤية الصينية في ازدياد.

نقله إلى العربية: فهيم الصوراني ـ المصدر : الميادين