مفهوم “حضارة الدولة” في السياسة الخارجية الجديدة لروسيا
بقلم إيفان تيموفييف ـ مدير البرامج في “نادي فالداي للحوار”
قد يكون ظهور مصطلح “حضارة الدولة” بداية تغيير في الإطار المفاهيمي لتفكير السياسة الخارجية الروسية. نعالج التغييرات عبر مقارنتها بوثائق مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي والتوجهات الأساسية للمرحلة السوفياتية. يواجه الإطار المفاهيمي الجديد منافسة جادة مع 3 نظريات سياسية رئيسة، أي “النظريات الثلاث الكبرى”: الليبرالية والاشتراكية والمحافظة. كل نظرية من هذه النظريات لها مفاهيمها الخاصة (تفسيراتها) للعلاقات الدولية والسياسة الخارجية.
يمكن أن يكون التحول نحو مفهوم “حضارة الدولة” خطاً بديلاً للفكر سيتطلب تطويراً فكرياً دقيقاً. ومع ذلك، إلى أن يتم الانتهاء من هذه الدراسة، تحتفظ الواقعية بأهميتها كأساس للسياسة الخارجية.
بعد انتهاء الحرب الباردة، بلغت الولايات المتحدة ذروة قوتها. يبدو أن النظرية الليبرالية ليس لديها بدائل متبقية. لقد انسحبت روسيا من المنافسة، وسرعان ما تخلت عن أوهامها الليبرالية وركزت على مصالحها البراغماتية وعلى نموذج السياسة الخارجية الواقعي.
حافظت الصين على التزامها بالاشتراكية في خصائصها الوطنية الخاصة، ولكنها في الوقت نفسه اندمجت بنجاح في الاقتصاد العالمي المتمحور حول الغرب. قامت الصين بتكييف نسختها من النظرية الاشتراكية مع الحقائق الجديدة للعلاقات الدولية. صاغت بكين عقيدة منهجية ومتطورة بعمق، تقوم على فكرة المكسب الشامل، والمصير المشترك للبشرية، والتغلب على خطوط التقسيم والصراعات.
تعزز الصين الأفكار برغبة في تعزيز تنمية الدول الأخرى من أجل المصلحة المشتركة، على أساس تجربتها الخاصة في التحديث الناجح والشامل. سواء أكانت راغبة أم لا، فقد أنشأت الصين، على أساس النظرية الاشتراكية وتجربتها الخاصة في التحديث، منصة أيديولوجية قوية قادرة تماماً على أن تصبح بديلاً للرؤية الليبرالية للنظام العالمي الحديث.
تجنبت روسيا لمدة طويلة صياغة مثل هذه الأفكار، وظلت على مبادئ الواقعية في السياسة الخارجية، ومع ذلك، فرضت روسيا تحدياً مفتوحاً للولايات المتحدة وحلفائها حول الوضع في أوكرانيا وهذه سابقة مهمة. إذا لم يتم قمع “التمرد الروسي”، فإن الضربة التي تلحق بهيبة الولايات المتحدة يمكن أن تكون مؤلمة للغاية.
في الوقت نفسه، هناك إشارات في روسيا حول تجاوز الواقعية المعتادة، ومحاولات التماس لأسس مفاهيمية جديدة للسياسة الخارجية. من المؤشرات المهمة تضمين وثيقة السياسة الخارجية الجديدة مفهوم “حضارة الدولة”. لدى هذا المفهوم القدرة على التطور بشكل أكبر ليغدو نموذجاً أكثر منهجية لا يمكن اختزاله في النظريات السياسية الثلاث الكبرى. ومع ذلك، فإن المسار يعد بأن يكون صعباً.
ما هي ميزة النهج الحضاري للعلاقات الدولية؟
أولاً: العمق التاريخي: غالباً ما تعمل الأنظمة الليبرالية والاشتراكية والمحافظة بذاكرة تاريخية قصيرة نسبياً. بالنسبة للدراسات الحضارية، فإن عمق التحليل هو مئات بل وآلاف السنين. تم وضع المشكلات الثقافية الفردية المكونة للنظام القائم على الحضارة قبل مدة طويلة من عصر الحداثة وما زالت تحتفظ بأهميتها.
ثانياً: يتيح لنا هذا النهج تجاوز المخطط المعتاد الذي يكون فيه اللاعبون دولاً قومية. من الواضح أن الدوافع الثقافية والحضارية يمكن أن تلعب دوراً فاعلاً في السياسة الدولية، حيث لا تتعارض المصالح فحسب، بل الهويات أيضاً.
ثالثاً: تغطي النظرة الحضارية الجوانب الروحية والمادية للثقافة. الدولة القومية هي مجرد واحدة من الأشكال السياسية المحتملة التي ولدت من الحضارة الغربية وفي مدة زمنية قصيرة نسبياً أصبحت منتشرة في كل مكان، ولكنها ليست بالضرورة نهائية.
هناك أيضاً عيوب واضحة. إذ لا يسمح العمق التاريخي دائماً بالكشف عن التأثير الحقيقي للتاريخ البعيد على السياسة الحديثة. غالباً ما يتم بناء الهويات السياسية للدول الحديثة. سيكون من الخطأ تصور الحضارة فقط من وجهة نظر الثقافة والتاريخ، متجاهلين بناء الثقافة والتاريخ من قبل نخب الدول الحديثة.
إن الفكرة الحديثة عن الحضارة لا تعني حضارة موجودة بشكل موضوعي، ولكنها فكرة عن تفسيرات فردية لمثل هذه الحضارة، والتي غالباً ما تكون مشروطة سياسياً.
عيب آخر، يتمثل في أن العامل الحضاري يلعب دوراً متناقضاً للغاية في تفسير السلام والحرب. لذلك، على سبيل المثال، فإن “الأنغلو ساكسون” اليوم، توحدهم علاقات الحلفاء والمصالح السياسية المشتركة. لكن في بداية القرن العشرين، نظرت بريطانيا العظمى بجدية في سيناريو الحرب البحرية مع الولايات المتحدة. داخل الولايات المتحدة نفسها، في عام 1861، اندلعت حرب أهلية بين “الأنغلو ساكسون” أنفسهم، وقد أودت بحياة أكثر من نصف مليون شخص. ماذا يمكننا أن نقول عن قارة أوروبا، والتي كانت تسمى في بداية القرن الثامن عشر مجتمعاً مسيحياً واحداً، ولكنها في الوقت نفسه، تقوم على عظام ضحايا مئات الحروب الدينية العقائدية بين الدول الأوروبية.
هناك مشكلة أخرى يحددها تعقيد الجمع بين مفهومي السيادة والحضارة. تطور مفهوم السيادة بما يتماشى مع النظريات العقلانية، وكان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة القومية. إن ارتباطه بمفهوم الحضارة أقل وضوحاً بكثير. سيكون هذا المفهوم منتجاً في الحالات التي تتطابق فيها حدود الحضارة مع الدولة بشكل أو بآخر. ولكن ماذا عن الحالات الأقل وضوحاً مثل أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو العالم الإسلامي؟ إذا لم يكن لدى الحضارة ذاتية سياسية، فمن الصعب جداً اعتبارها جهة فاعلة في العلاقات الدولية.
إن الظهور في الوثيقة الرسمية لمفهوم “الدولة – الحضارة” يعيدنا إلى الأسئلة الأساسية المتعلقة بهويتنا. العمل نظرياً وعملياً في هذا الاتجاه مقيّد بعدة عوامل.
الأول، هو مسار هوية روسيا في القرن ونصف القرن الماضي. كان انتصار الثورة في روسيا عام 1917 انتصاراً غير مشروط للغرب. الاشتراكية من أصل غربي. حققت البلاد قفزة قوية إلى الأمام.
من منظور الغرب، يمكن اعتبار انهيار الاتحاد السوفياتي نتيجة لعدم اكتمال مشروع التحديث السوفياتي، واستبدال المؤسسات الحديثة بتقليد قديم لها، والتعايش مع إنجازات تقدمية.
في الواقع، تمت إصلاحات أواخر الثمانينيات على وجه التحديد تحت شعارات التحديث، وعكست الرغبة في الاندماج مع الغرب تصور أسباب الأزمة في مشروع تحديثي غير مكتمل أو مشوه.
طوال القرن العشرين، كان الغرب أو أجزاء منه من المعارضين السياسيين لروسيا. لكن من حيث تنظيم المجتمع ومؤسساته، تطور الاتحاد السوفياتي تحت تأثير الأفكار الغربية. 30 عاماً من تاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي مرت أيضاً في منطق الغرب. لقد سار التحول المحافظ الذي بدأ في أواخر التسعينيات على ما يرام معه. والشيء الآخر هو أن مثل هذه الحركة لم تزيل مشاكل سياسية معينة في العلاقات مع عدد من الدول الغربية، بل أدت إلى تفاقمها في بعض الأحيان.
لكن أسباب هذه المشاكل كمنت أساساً في تضارب المصالح، وليس في صراع الهوية الحضارية. يعيدنا التفكير في السياسة الخارجية فيما يتعلق بحضارة الدولة إلى تصور روسيا كحضارة منفصلة، والتي تعتبر الغرب “طرفاً مهماً آخر” بالنسبة إليها. هذه طريقة للخروج من مأزق قرن واحد على الأقل. ولن يكون الخروج من هذا المأزق سهلاً.
يتم تحديد العامل الثاني من خلال خصوصيات تطور المجتمع الروسي. كان لدى معتنقي عقيدة وحدة الشعوب السلافية المحليين في القرن التاسع عشر حجة جادة وحقيقية أثرت في قطاعات ضخمة من السكان ظلت في نظام الثقافة والقيم التقليدية. لقد أحدث قرن ونصف من التحديث تغييرات كبيرة في المجتمع الروسي. بات أقل تديناً. طريقته التقليدية في الحياة تحطمت. قللت السنوات الثلاثون الماضية إلى حد ما من التجاوزات السوفياتية، لكن التقاليد لم تعد، ولم تستطع إعادة روسيا إلى الماضي. علاوة على ذلك، تحولت روسيا إلى دولة رأسمالية كاملة مع كل العواقب المترتبة على الثقافة وأسلوب الحياة.
يمكن تخيل روسيا على أنها دولة الحضارة، لكن من الأصعب بكثير وضعها على منصة حضارية واقعية. ومع ذلك، يواجه العديد من الآخرين التحدي نفسه.
العامل الثالث مرتبط بأن الدول والحضارات الأخرى – عدد كبير من الدول الأخرى في الواقع – تحافظ على علاقات وثيقة مع الغرب ولن تتخلى عنها، حتى لو كانت العلاقات السياسية معه تثير قضايا منفصلة. الحضارات النقية إلى حد ما باتت نادرة، بينما لا تزال الممارسة السياسية تتطلب تفاصيل خاصة في بناء حوار حول القضايا الفردية. إن الحاجة إلى تنويع الموارد المالية العالمية والابتعاد عن هيمنة الدولار أسهل من حيث التبرير بالمصالح الأمنية المشتركة من تبريرها بالاختلافات الحضارية من الغرب.
خلاصة القول، إن مفهوم “حضارة الدولة” (الدولة – الحضارة) يمكننا من بناء هويتنا السياسية، واستكمالها بعناصر جديدة. لكن هذا سيتطلب الكثير من العمل النظري على المفهوم نفسه ككل وعلى مجموعة واسعة من الموضوعات الموازية. لن يكون من السهل إنشاء نظرية سياسية جديدة كاملة، بديلة عن النظريات الثلاث الكبرى.
إن العلاقات الدولية عبر الواقع الروسي، يتخللها الجهاز المفاهيمي للنظريات الثلاث الكبرى معاً. سيحدد الوقت إلى أي مدى سيتم تطوير مفهوم “حضارة الدولة” نظرياً وعملياً. إن وثيقة مفهوم السياسة الخارجية الجديدة تترك مجالاً للمناورة. في غضون ذلك، تظل واقعية السياسة الخارجية هي السائدة في الاتحاد الروسي.
نقلها إلى العربية: عماد الدين رائف المصدر : الميادين