حرب غزة.. ثلاثة فوارق فارقة
بقلم عيسى الشعيبي
بعيداً عن المجريات الميدانية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تلك التي تستحق قراءة عسكرية في وقت لاحق، تتكشّف في هذه الحرب جملة من السوابق وسلسلة أخرى من الفوارق، التي لم ترافق أيا من جولات القتال المتلاحقة على أكثر بقاع الأرض ازدحاماً بالسكان الفقراء المحاصرين، وأشدّهم بأساً في مقاومة الظلم والقهر تحت أقسى ظروف العيش.
في هذه الحرب، لم تبحث دولة الاحتلال عن مبرّر، أي مبرّر، لشن عدوانها الآثم الجديد، ولم تختلق ذريعةً من أي نوع لتسويغ هذا الجنون الحربي أمام الرأي العام، كما لم تتستّر على غايتها الأساسية هذه المرّة من إشعال النار تحت قِدر انتخابات وشيكة، يخوضها قادة أحزاب يمينية على كسب مزيد من أصوات غلاة المتطرّفين والمستوطنين.
على أن ما نحن بصدده في هذه المطالعة، عن سياقات الحرب الجوية من جهة وسيل الرشقات الصاروخية من جهة ثانية، التقاط بعض الفوارق النوعية بعيدة المدى، المميّزة لسمات هذه الحرب وسمات الحروب السابقة لها على غزّة خلال السنوات الطويلة الماضية، لبيان ما تختلف به معركة “توحيد الساحات”، وهي التسمية المعتمدة لهذه الجولة، عن معركة سيف القدس، أو غيرها من المعارك المتعاقبة.
ولعل أول هذه الفوارق الفارقة ماثلٌ في حقيقة أن عنصر الوقت لا يعمل لصالح عدوٍّ فائق القوة، بدليل أن قادته أخذوا يدعون إلى وقف الحرب بالسرعة الممكنة، ويعرضون وقفاً لإطلاق النار قبل أن تتبدّد لديهم مكاسب ميدانية تحقّقت بسرعة قياسية، وهذه إشارة قوية إلى ما آل إليه حال دولة الاحتلال تحت قيادةٍ يتصارع أركانها على المغانم الحزبية والمقاعد النيابية، من دون أدنى التفاتة لجبل من المعضلات البنيوية المهدّدة لحاضر الدولة العبرية ومستقبلها.
وأحسب أن هذ المتغير في عامل الوقت الذي ظل يعمل لصالح إسرائيل طوال الوقت لا سابق له في تاريخ هذه الصراع المديد، يمكن البناء عليه وتوظيفه بشكل جيد جداّ، لتضييق هامش المناورة السياسية أمام عدو دخل في مرحلة الخوف والارتباك وعدم اليقين، إزاء مستقبل مشروعه القائم على منطق أن الكبار يموتون والصغار ينسون، فيما الوقائع على الأرض كفيلةٌ بالدفاع عن نفسها بنفسها مع مرور الوقت الموظّف تماماً لإيجاد واقع جديد.
وثاني هذه الفوارق التي لا تخطئها عين المراقب ماثل في حقيقة أن “سيف القدس” الذي استلّته حركة حماس من غمده قبل نحو 15 شهرا، بما يعنيه من معادلة تربط مصير المدينة المقدّسة بالمقاومة المسلحة في غزة، قد جرى تجريده مجدّداً على أيدي حركة الجهاد الإسلامي، بعد أن نام في غمده زمناً لا معنى له، حيث أصرّت “الجهاد الإسلامي” على إطلاق سراح الشيخ بسام السعدي من جنين في أي وقف لإطلاق النار، وفي هذا المطلب العادل إعادة تجديد لذلك الرابط المصيري بين الضفة الغربية والقطاع. وإذا ما تمكنت الحركة التي أظهرت كفاءة مدهشة في هذه الجولة الحربية، رغم ما تكبدته من خسائر باهظة على صعيد قياداته الميدانية، من انتزاع هذا المكسب السياسي غير المسبوق، فإن رابط “سيف القدس” سيُعاد بعثه على نحو أكثر ملموسيةً من قبل، كما أن هذه المعركة ستسجّل فارقاً عملياً عن كل ما عداها من معارك سابقة، كانت تنتهي بتفاهماتٍ غير مكتوبة لا يحترمها الاحتلال، ثم يرجع الوضع البائس إلى ما كان عليه، إن لم نقل يزداد بؤساً على بؤس.
أما ثالث هذه الفوارق الفارقة التي تجلت خلال هذه المعركة، فهي صادمة ومؤسفة وباعثة على الخوف في المستقبل القريب، حيث شكّل إحجام حركة حماس عن المشاركة في صد عدوان غاشم على شريك لها في كل شيء، وهذه هي المرّة الثانية، أثمن ما حققه العدوان في هذه المعركة التي نزلت حممها فوق رؤوس قوم تقوم “حماس” مقام ولي أمرهم، الأمر الذي كسر قاعدة تاريخية معمولا بها تلقائياً، وهي أن الفلسطينيين بمثابة قبضة يد واحدة كلما تعرّضوا لهجمة، داخل فلسطين وخارجها.
أكثر ما يخشاه المرء إزاء هذه الفارقة السلبية، والتي تجذّرت في سياق المعركة، أن تعمّق الشعور بالخذلان، وأن تثير الارتياب لدى “الجهاد” حيال صنوها في غرفة العمليات المشتركة (اسم على غير مسمّى)، الأمر الذي من شأنه أن يؤسّس لعلاقة ثنائية غير سليمة بين ركني المقاومة في غزة.
المصدر: العربي الجديد